فالمستشرقون ينطلقون في تعاملهم مع الشعر الجاهلي على أنه نقش مقبرة عادية قديمة، مكتوب بلغة ماتت ومات أهلها، مدفوعين إلى ذلك لا من منطلق المنهج العلمي الذي يعمل من أجل تجلية الحقيقة العلمية، وإنما بدافع الهوى والضغائن، كما أنهم يكتبون إلى ملقٍ لا دراية لا بلغة العرب ولا بآدابها، لذلك يستطيع القارئ العربي العارف بخبايا العربية وجمالياتها، وبخاصة في الشعر الجاهلي إدراك افتراء هؤلاء المستشرقين على هذا الشعر، فمنهج الاستشراق في التعامل مع الشعر الجاهلي غير مبني على تذوق سليم لجمالية هذا الشعر في بنيته اللغوية والدلالية المتفردة والمتميزة.
لاحظ محمود محمد شاكر بعد حوار له مع زميله عقب الاستماع إلى محاضرات طه حسين أن اتكاء الدكتور على منهج ديكارت خاصة ما ورد في كتابه " مقال في المنهج " هو الأساس العلمي في تعامله مع الشعر الجاهلي - كما يدعي - ولكنه في الحقيقة يحمل الكثير من المغالطات والتهويل تنم عن سوء فهم لآليات هذا المنهج وغاياته العلمية، وأن تطبيق طه حسين لهذا المنهج ليس من منهج ديكارت في شيء. وأن ما يقول به في محاضراته ما هو إلا سطو مجرد على مقالة مرجليوث، وأن ما جاء به طه حسين لا يزيد على أن يكون "حاشية " على هذه المقالة، مجرداً من الإحساس الحقيقي بالشعر الجاهلي في لغته وجمالياته، وبذلك كانت المحاضرات تزييفا فظيعا لهذا الشعر وسطوا، مما يهز قواعد الآداب التي نشأ عليها هذا الشعر هزاً عنيفاً.
فتعامل طه حسين مع الشعر الجاهلي وفق الرؤية السالفة الذكر، هو الذي أثار المعركة النقدية منذ الوهلة الأولى، وليس أدلّ على ذلك ما يذكره محمود محمد شاكر في قصته مع الشعر الجاهلي وما دار بينه وبين أستاذه من خصام نقدي في مدرج الجامعة، مؤكداً أن مرجعية طه حسين في التعامل مع الشعر الجاهلي لم تكن مرجعية ذات أصول عربية بريئة تبتغي الغاية العلمية في تحقيق الشعر الجاهلي وتمحيصه وفق آليات القراءة الفيلولوجة، بل كانت في الأساس ذات مرجعية استشراقية مبطنة لا بغاية علمية بريئة وإنما بغاية غير مؤسسة على أساس علمي، وأن طه حسين لم يكن إلا صدى لأطروحات المستشرقين، بل كان مبلغاً وداعياً لها بقلم ولسان عربيين.
و على الرغم من الطابع الشفهي السجالي الذي اتسمت به بداية المعركة النقدية في مدرج الجامعة أيام إلقاء المحاضرات، إلا أنها كانت بمثابة الخطوة الأولى التي استكشفت الكثير من الجوانب الخفية حول الإشكال الذي طرحه طه حسين ومرجعيته الفكرية والمنهجية، فمهدت للتأسيس لمرحلة ثانية من المعركة النقدية حول الشعر الجاهلي اتسمت بالطرح العلمي الأكاديمي الهادئ الذي ناقش الإشكالية في جوانبها العلمية والمنهجية المبنية على الدراسة المتفحصة لجل الإشكاليات العالقة بالشعر الجاهلي.