آلیات الخطاب النقدی العربی الحدیث فی مقاربة الشعر الجاهلی

محمد بلوحی

نسخه متنی -صفحه : 139/ 50
نمايش فراداده

تعد مقاربة ناصر الدين الأسد من بين أهم الإسهامات العلمية التي أُنجزت للدفاع عن قيمة الشعر الجاهلي، فامتازت بالطرح العلمي المتميز والمناقشة الهادئة باستقصاء موضوع الشعر الجاهلي، فنقض الكثير من أطروحات طه حسين حول الشك في الشعر الجاهلي بمنهج واضح بعيد عن التعصب والاندفاع الذاتي، فاستهل الموضوع بعرض مفصل للمكونات الأساسية للمجتمع العربي في الجاهلية في شبه الجزيرة العربية، ثم انتقل إلى التفصيل قي قضية الكتابة وأدواتها وموضوعاتها في العصر الجاهلي وكتابة الشعر الجاهلي وتدوينه وتقييده، ثم أفاض في مسألة الرواية والسماع واتصال حلقة الرواة من الجاهلية حتى القرن الثاني الهجري، وطبقات الرواة والإسناد في الرواية الأدبية وكيفية توثيق الرواة وتضعيفهم، وإشكالية الانتحال وكيف أثارها القدماء والمستشرقون، والقراءة العربية الحديثة.

اختتم ناصر الدين الأسد بحثه المستفيض الذي جاوز الستمائة صفحة بباب خصصه لدواوين الجاهلية المفردة منها ودواوين القبائل والمختارات الشعرية كالأصمعيات والمفضليات والأشعار المبثوثة في المصنفات العلمية الأخرى كالكتب الأدبية اللغوية والسير وغيرها. فاعتُبِرَ هذا المؤلف بحق من القراءات الممنهجة علمياً، الواضحة الطرح، الأكاديمية في العرض والمناقشة، لا تنتصر إلى المسألة إلا إذا وجد الدليل إلى ذلك، مبيناً أن الشعر الجاهلي حقيقة لا شك فيها على الرغم من أن المسائل التي أثيرت حول صحته سواء أكانت عند القدماء أم المحدثين من مستشرقين أو عرب وبخاصة عند طه حسين فيها نصيب من الطرح العلمي الصحيح، ولكنها لا تجعلنا نغالي فننكر أغلب هذا الشعر ، فهو حقيقة وجدت ونقلت إلينا بأمانة في كثير من المواطن.

و بذلك طرحت القراءة التاريخية الحديثة إشكالية الشعر الجاهلي طرحاً فيلولوجياً بكلِّ ما تحمله من مزالق على بساط البحث والمناقشة، فأثارت بطرحها الشك في الشعر الجاهلي معركة نقدية أسهمت إلى حد كبير في إثراء الثقافة العربية الحديثة، ورفعت اللبس عن كثير من المسائل التي ظلت أمداً طويلاً من المسائل المستعصية في تاريخ الثقافة العربية، فأجهدت القراءة العربية الحديثة نفسها بتحقيق رواياته ونصوص الشعر الجاهلي، وتمحيص مسائله حتى ترقى به إلى مصاف التراث العالمي ذي الجذور العميقة التي لا تتزعزع، بالآليات العلمية المؤسسة على رؤية واضحة المعالم، ولا تنتصر إلى مسألة من مسائله حتى تُفَصِّل فيها وتقلبها من جميع أوجهها، منتهية في كثير من نتائجها إلى أن التحقيق الجاد للشعر الجاهلي يؤكد أن الشعر حقيقة لا يمكن إنكارها، وإن دارت حوله الشكوك التي أسسها أصحابها في كثير من المواطن على جزئيات من أجل الشك في كله، مؤكدة أن الشك في الفرع لا يرقى إلى الشك في الكل.

ندرك في آخر هذا الفصل أن القراءة التاريخية الحديثة عمدت في تعاملها مع إشكالات الشعر الجاهلي بشرح الأثر بالعودة إلى التاريخ، وكأن الأثر يفصح عن زمان تأليفه وأحوال عصره، فيكشف وقائعه وعاداته وأخلاقه. لذلك يعتمد الناقد في استخلاص هذه الظواهر على وقائع الظاهرة الأدبية إيماناً منه أن الظاهرة الأدبية تحتوي مضمون زمانها في كل أبعاده الحضارية والإنسانية. كأنها حدث تاريخي، كما يتحرى تطابق الروايات والأخبار الواردة في الظاهرة والواقع التاريخي، وبذلك يجعل من النقد بطرحه هذا وعاء للتاريخ، وكأن الأعمال الإبداعية كتبت لتدعم الواقع التاريخي لا العكس.