اثر التراث الشعبی فی تشکیل القصیدة العربیة المعاصرة

کاملی بلحاج

نسخه متنی -صفحه : 62/ 13
نمايش فراداده

2ـ الأسطورة والشعر

لعلنا لا نخطئ إن قلنا إن المهتمين بالأسطورة ودارسيها لم يتوصلوا إلى اعتماد تعريف جامع مانع لها، يمكنه الإسهام في توضيح بعض المسائل المتعلقة بطبيعتها وعلاقتها بغيرها من الأنساق التي قد تتداخل معها في الكثير من الجوانب كالشعر مثلاً.

ولعل صعوبة الوصول إلى هذا التعريف الجامع المانع هو الذي جعل سنت أوغسطين يقول عندما سئل عن ماهية الأسطورة ((إنني أعرف جيداً ما هي، بشرط ألاّ يسألني أحد عنها، ولكن إذا ما سئلت، وأردت الجواب، فسوف يعتريني التلكؤ)). وقد أشار إرنست كاسيرر كذلك إلى هذه الصعوبة فذكر أن المشكلة لا تكمن في نقص المادة بل في وفرتها وتعدد مصادرها، فقد اشترك الأدباء والفلاسفة وعلماء الأنثروبولوجيا وعلم النفس وعلم الاجتماع في هذه الدراسات، كلّ من وجهة نظره واختصاصه.

ليس الهدف في هذا المقام الوقوف عند هذه الآراء ووجهات النظر، لأن ذلك يستلزم جهداً كبيراً، ليس هذا موطنه، وإنما نريد سبر أغوار مواطن التلاقي والاختلاف بين الشعر الأسطورة، وهل الشعر هو فعلاً كما قيل ((السليل المباشر للأسطورة وابنها الشرعي))؟

إن علاقة الشعر بالأسطورة علاقة قديمة تشهد لها العديد من المخلفات الفنية كالملاحم البابلية والإغريقية والصينية. فقد أجمع مؤرخو الصين على أن معتقداتهم الأسطورية كانت المضمون الوحيد لأقدم صور التأليف الشعري عندهم، والإجماع نفسه ينطبق على ملحمة جلجامش والإلياذة والأوديسة التي استقت موضوعاتها من التراث الشعبي العريق. وليس من المستبعد أن تكون بذور الشعر الملحمي قد جاءت من التراتيل والابتهالات الدينية التي كان يؤيدها الكهنة وسدنة المعابد، أو من تلك الأشعار الشعبية التي كان يرويها المنشدون في المحافل والمناسبات الدينية، يروون فيها للناس تاريخ الوقائع والأساطير التي تصوّر بطولات أسلافهم. وقد يعود الفضل إلى هوميروس في جمع هذا التراث وتنسيق عناصره في شكل شعري متكامل قيل إنه ((قمة الأعمال الأسطورية في إطارها الأدبي))، وإلى غيره من المسرحيين اليونانيين المعروفين كإسخيلوس وسوفوكليس ويوروبيدس.

لا أحد ينكر أن الشعر تجربة روحية وجمالية عميقة تتصل بأعمق مكونات الأمة ومشاعرها، وتستخدم من اللغة أقرب ألفاظها وكلماتها إلى الحس، وأكثرها قدرة على الترميز والإشعاع بهذه المكونات. وهذه النظرة لا تختلف ـ في اعتقادنا ـ عن النظرة التي ترى في الأسطورة شكلاً من أشكال التعبير العذري عن التجربة الإنسانية في مغامرتها الأولى مع الطبيعة والحياة. ومن ثمّ فإن كليهما (الشعر والأسطورة) متصل بالتجربة الإنسانية، حافل بمنطوقها وأسرارها، معبّر عن مكوناتها وبواعثها النفسية والجمالية. ومن ثمّ أيضاً، يمكن القول إن عودة الشاعر المعاصر إلى استخدام الأسطورة في الشعر، هو في واقع الأمر، عودة حقيقية إلى منابع التجربة الإنسانية، ومحاولة التعبير عن امتداداتها في وقتنا الراهن، بوسائل عذراء، لم يمسسها الاستعمال اليومي فيمحي عنها صفة القداسة والسحر.

وربما كانت الأسطورة من هذه الناحية بالذات، في زمانها، أعمق الأشكال وأكثرها استجابة لحاجات الإنسان في تلك المرحلة، فهي من حيث الشكل قصة، تحكمها مبادئ السرد القصصي من حبكة وشخصيات وعقدة. وكثيراً ما تأتي في قالب شعري يساعد على روايتها وتداولها في المناسبات الدينية. أما من حيث التأثير فهي تتمتع بقداسة كبيرة وسلطة عظيمة على عقول الناس، وهي سلطة تضاهي سلطة العلم في العصر الحديث، أضف إلى ذلك أنها ((ذات مضمون عميق يشف عن معاني ذات صلة بالكون والوجود وحياة الإنسان)). ثم كونها الوعاء الذي تفاعل فيه السحر بالدين، والشعر بالطقوس، والأحلام بالأوهام.

بهذا الخليط من الأفكار والتصورات والخيال الواسع والظلال السحرية للكلمات، استطاعت الأسطورة أن تعبر عن قلق الإنسان وتساؤلاته، فكانت أول محاولة لفهم قوى الطبيعة والسيطرة عليها ولو بطريقة وهمية وخيالية، لكنها كانت على درجة بالغة من الأهمية في حياة الإنسان. يقول كلود ليفي شتراوس في هذا الصدد إن الأسطورة ((لا نصيب لها من النجاح في إعطاء الإنسان قوة مادية أشد للسيطرة على البيئة، لكنها مع ذلك تعطي الإنسان وهم القدرة على فهم الكون، وأنه فعلاً يفهم الكون وهذا بالغ الأهمية. لكنه مجرد وهم بالطبع)). وهنا تلتقي الأسطورة بالشعر من حيث أنهما يوهمان الإنسان بامتلاك السلطة على الأشياء، ذلك أن اللغة عند مبدعي الأساطير والشعر ليس أداة اتصال فحسب وإنما هي أداة سحرية للسيطرة على الأشياء والكائنات.

بمعنى آخر إن قوة هؤلاء المبدعين تكمن أولاً وقبل كل شيء في اللغة التي يتحدثون بها، فهي لغة تختلف عن اللغة العادية من حيث الكثافة والإيحاء والقدرة على الترميز والإثارة، فهي تمتلك شحنة من الإحساسات والعواطف ما يجعلها تقرع الصمت وتبث الحياة، بل وأكثر من ذلك تنفث في الإنسان ما يعطيه القدرة على استدعاء الأشياء وامتلاكها.

يقول مارتن هيدجر MARTIN HEIDEGGER (1889ـ 1976) في هذا الشأن ((اللغة هي التي تفتح لنا العالم، لأنها وحدها التي تعطينا إمكان الإقامة بالقرب من موجود منفتح من قبل... وكل ما هو كائن لا يمكن أن يكون إلا في (معبد اللغة)... اللغة تقول الوجود، كما يقول القاضي القانون. واللغة الصحيحة هي خصوصاً تلك التي ينطق بها الشاعر، بكلامه الحافل. أما الكلام الزائف فهو كلام المحادثات اليومية. إن هذا الكلام سقوط، وانهيار)). ومن ثمّ كانت مهمة الشعراء ومنتج الأساطير، مهمة صعبة وشاقة، لأنها تتطلب لغة خاصة قادرة على اختزال الفعل الإنساني.

وثانياً في طريقة استعمال هذه اللغة، وهي طريقة ـ كما حدثنا عنها بعض الدارسين ـ سحرية وغريبة في الوقت ذاته، يصعب تقنينها أو القبض عليها، بل ووصفها في بعض الأحيان. لأن كل قصيدة أو أسطورة لها حياتها الخاصة التي هي مصدر قوتها وبقائها وجمالها. وهذا يعني بعبارة أخرى أن كل قصيدة أو أسطورة هي بمثابة مولود جديد يحمل جيناته وسماته التي تحفظ لـه وجوده وتجعله مستقلاً عن الآخرين.

والغريب في هذه اللغة، المستعملة بهذه الطريقة، أن بإمكانها هدم كل ما هو أمامها من أفكار وتصورات مؤسسة، بفعل تأثيرها السحري واستخدامها المفاجئ غير المكرور. وهنا يكمن السرّ الذي تتمتّع به الأسطورة والشعر على حد سواء. وربما لهذا السبب دعا أفلاطون في كتابه الجمهورية إلى ضرورة استبعاد الشعراء من مدينته التي تقوم على العقل، حتى لا يستبدون بها وبشبابها. والسّماح بالشعر يعني فتح الطريق أمام الأسطورة والخيال، وهما عنصران لا يريد أفلاطون أن تقوم عليهما جمهوريته.

وإذا كانت اللغة هي مفتاح العالم على حد تعبير هيدجر أو ((فعل خلق للوجود وإعادة تشكيله تجريدياً)) على حد قول غيره، فإنها لن تكون كذلك إلا في الأسطورة والشعر بوصفهما أرقى الأشكال ترميزاً وإيحاء، وكونهما رسالة سرمدية موجهة للإنسان، تبين عن حقائق خالدة وتؤسس لصلة عميقة بين الماضي والحاضر والمستقبل، بين الحياة والموت.

فالأسطورة مثلاً لا تروي أحداثاً جرت في الماضي وانتهت، وإنما تروي كذلك أحداثاً لا تتحول إلى ماض أبداً. ففعل الخلق الذي تمّ في الأزمنة المقدسة، يتجدد في كل عام ويجدد معه الكون وحياة الإنسان. وإله الخصب (تموز) الذي قتل ثم بعث إلى الحياة، موجود على الدوام في دورة الطبيعة وتتابع الفصول، وصراع (بعل) مع الوحش، هو صراع دائم بين قوى الخير وقوى الشر. وحتى تلك الأساطير التي تروي أحداثاً تاريخية مضت كأسطورة الطوفان أو (الدمار الشامل)، فهي في الواقع لا تخفي اهتمامها بالمستقبل، فالطوفان الذي دمّر الأرض وخرّب من حولها، تحذير دائم من أن غضب الآلهة وانتقامها قد يصيب الإنسان في أي وقت من الأوقات.

ومن هنا يمكننا القول إن همّ الأسطورة والشعر لا يكمن في التعبير عن الأشياء العارضة، المنتهية في الزمان والمكان، وإنما في التعبير عن القيم الخالدة والنماذج الكبرى في حياة البشر، وقد أشار كارل يونغ إلى هذه الفكرة حين تحدث عن الأساطير بوصفها أكثر نتاج البشرية البدائية نضجاً وتعبيراً عن هذه النماذج، والشعر العظيم عنده يستمد قوته من حياة النوع البشري، تلك الحياة التي تبدو بعيدة لكنها تختفي في ذات كل واحد منا، تظهر من حين إلى آخر في أعمالنا الأدبية وإبداعاتنا الفنية بل وفي أحلامنا الليلية أيضاً.

ومعنى هذا أن كلاً من الشاعر وصانع الأسطورة يستمد خبراته ورموزه من الحياة النفسية والفكرية للنوع البشري. والمعروف عن هذه الحياة ـ كما يصفها علماء النفس والأنثروبولوجيا ـ أنها غنية بالصور والخيالات والرموز، وهي تضرب في أرض خصبة، عميقة الجذور والمتاهات والأغوار. وبقدر ما يكون غوص الفنان في هذه الأغوار والمتاهات، يكون أصيلاً وقريباً من طبيعة الفن، ومن طبيعة هذه النماذج التي يعتبرها نورثروب فراي أساس توحيد تجربتنا الأدبية وتكاملها.

ومن الواضح أن الفنانين يتفاوتون في مقدار هذا الغوص، فمنهم من يصل إلى الأعماق ومنهم من يبقى على السطح، كل على قدر موهبته وعبقريته بل واستعداده للغوص. وقد لا يكون النجاح حليفاً في كل مرة، فهناك من الفنانين من بلغ هذه الأعماق في بعض أعماله الفنية، وخاب في بعضها الاخر، والعكس. لأن ذلك مطلب عسير يتطلب استعداداً روحياً ونفسياً خاصاً، وهو ما لا يتوفر دائماً. ولنا في كبار الفنانين والشعراء الصوفيين والرمزيين من أمثال محي الدين بن عربي وابن الفارض وأبو العلاء المعري وبودلير (1821ـ 1867) ورامبو (1845ـ 1891) ومالارميه (1842ـ 1898) خير مثال على ذلك.

يبدو أن التقارب الشديد بين الأسطورة والشعر من حيث اللغة والوظيفة، كما رأينا سابقاً، ناتج من الأرضية الواحدة أو المتشابهة التي ينطلق منها كل من الشعراء ومبدع الأساطير، فهما ((يعيشان في عالم واحد، ولديهما موهبة أساسية واحدة هي القدرة على التشخيص، ولا يستطيعان أن يتأملا شيئاً دون أن يمنحاه حياة داخلية، وشكلاً إنسانياً)) متميزاً، وكأنهما ينفثان في الأشياء من روحيهما فيهبونها القدرة على الإفصاح عن نفسها. ونعتقد أنه بغير هذا النفث أو البقية من السحر في الأسطورة والشعر، فإنهما يكفّان عن أن يكونا فناً عظيماً، لأن من طبيعة الفن الأصلية أن يكون فيه شيئاً من السحر وإلا أصبح كلاماً عادياً. وبقدر ما يشع هذا السحر في العمل الفني، تكون عظمته وقيمته، بل وتأثيره في النفوس والأرواح. وربما هذا ما جعل بعضهم، كما أشرنا سابقاً، يربط بين الفن والسحر ربطاً قوياً.

إن ما يربط الشاعر المعاصر بالأساطير والتراث الشعبي القديم عموماً، هو تلك السمات الفنية التي تتمتع بها هذه الأساطير ومنها القدرة على التشخيص والتمثيل، ومنح الحياة للأشياء الجامدة، واستخدامها الظلال السحرية للكلمات والصور البيانية القادرة على الإحاطة والكشف، أضف إلى ذلك، هذه الطاقة الخيالية الجامحة القادرة على ارتياد عالم الطبيعة والإنسان.

إلى جانب هذا فالأسطورة ((ضرب من الشعر)) تبني الحقيقة التي تعلن عنها بطريقتها الخاصة التي هي فوق مستوى التعبير اللغوي المعتاد على حد تعبير كلود ليفي ستراوس فهي، بعبارة أوضح، ذات طبيعة لغوية خاصة لا نجدها في تعبير لغوي آخر، سوى الشعر، وأعني التعبير المجازي عن الحياة والوجود. فهذه المجازية في الرؤية والتعبير هي القاسم المشترك بين الأسطورة والشعر.

وهذا شبيه بما أشار إليه إرنست كاسيرر Ernst Cassirer (1874ـ 1945) حينما رأى أن الأسطورة تتضمن عنصراً من الخلق وهي ذات قرابة وثيقة بالشعر، لكونهما شكلاً رمزياً أصلياً، وهي ليست لغة استطرادية كثيفة التصوير، كما قد يتبادر إلى بعض الأذهان، بل هي أشبه بلغة الأحلام عند فرويد. ويذهب كاسيرر إلى أبعد من ذلك حينما يتبنى الرأي القائل بأن الشعر الحديث تحدر من الأسطورة بعد عمليات من التطور البطيء، وأن عقل الشاعر ما يزال أساساً عقل صانع للأساطير.

قد ينطبق هذا الافتراض على القصائد والملاحم الشعرية القديمة، العربية منها أو الأجنبية، لكنه لا ينطبق على الشعر كله. ومن ثم فالمسألة ليست مسألة تطور أو انتقال من منهج عقلي إلى منهج رمزي، كما يعتقد البعض، بقدر ما هي مسألة إبداع وطبيعة، فالتشابه الحاصل بين الشعر والأسطورة يعود، في رأينا، إلى الطبيعة الواحدة التي تجمع بينهما لغة وخيالاً.

فعلى مستوى اللغة نجد كل منهما يعتمد على تلك اللغة التصويرية المجنحة التي توحي بالحقيقة ولا تقبض عليها. وهي لغة الشعور أو الذات في إحساسها بالأشياء على نحو غامض. أما الخيال، فهو أداة التشكيل الأولى فيهما، ومكتشف الوسائل الفنية لتجسيد الأفكار والمشاعر من صور ولغة ورموز وإيقاعات، ويصوغ التجربة النفسية في إطارها الخاص وشكلها الملائم.

وانطلاقاً من هذا التصور الجديد لعلاقة الشعر بالأسطورة يمكننا القول إن الأسطورة بطبيعتها تلك وبواعثها ومكوناتها، رؤى شعرية عميقة، وصل بها الإنسان الأول إلى التعبير عن أفكاره ومشاعره. ولهذا نجد في كثير من الأحيان ((أن الموقف الأسطوري في صميمه موقف شعري)) درامي، لأنه موقف صراع دائم بين الخير والشر. وهذا الصراع في حقيقة الأمر هو جوهر كل فن عظيم.

ليست الأسطورة وهماً أو خيالاً لا معنى له، كما قد يعتقد البعض، بل هي منطوق النفس الإنسانية، مثلها مثل الشعر، تنشأ من حاجات إنسانية وروحية، تتخذ من الإيحاء والرمز بنية لها، وتجنح كالشعر، إلى أن تخلع على التجربة نوعاً من السحر والرهبة.

وربما لهذا السبب قال شليكل ((الأسطورة والشعر شيء واحد لا انفصال بينهما))، فهما ينبعان من مصدر واحد (الذات)، وينتسبان إلى أسرة رمزية واحدة هي التكوين الرمزي واللغة الرمزية، ويؤديان وظيفة واحدة هي التطهير الروحي والتعبير عن مكنونات النفس. ومن هنا كانت حياة ومصير كل منهما متعلقة بالآخر، ((فالأسطورة أساس لا غنى للشعر عنه... والشعر أساس لا غنى للأسطورة عنه))، ووجود أحدهما يعني حتماً وجود الآخر والعكس صحيح.

ويبدو أن الذين لا يفرقون بين الشعر والأسطورة، من أمثال: شليكل ومارك شورر وإيريك فروم، ينطلقون من تصور فلسفي أساسه أن الأسطورة أم الفنون ومصدرها الخصيب، وهو تصور صحيح، لكنه غير عام، بمعنى أنه ينطبق على الفنون القديمة بما في ذلك الشعر، لكون هذه الفنون، كما سبق وأن أشرنا، كانت عند نشأتها ذات صلة قوية بالأساطير والمعتقدات السحرية. لكن هذه الفنون سرعان ما انفصلت عن الأسطورة، كما انفصلت هذه الأخيرة بدورها عن الدين، بسبب تطور المجتمعات البشرية وتحضرها. غير أن هذه الفنون، والشعر منها على وجه الخصوص، ظل يحتفظ بهذه العلاقة فيحنّ إلى الأسطورة من حين إلى آخر، كلما شعر بطغيان المادة وتدهور العلاقات على نحو ما نجد في شعرنا العربي المعاصر وغيره من أشعار الأمم والحضارات.

أما الذين يفرقون بينهما ـ هربرت ريد على سبيل المثال ـ فهم ينطلقون من تصور آخر مفاده أن ((الأسطورة تحيا بالمجاز، وهذا يمكن إيصاله بالرموز اللفظية لأية لغة... إلا أن الشعر يحيا بفضل لغته، فجوهره مرتبط بتلك اللغة ولا يمكن ترجمته)). وعلى الرغم مما في هذا الكلام من صحة، إلا أنه يفتقر إلى الدقة في فهم طبيعة العلاقة بين الشعر والأسطورة من حيث التعبير اللغوي. فهو صحيح إذا نظرنا إلى الأسطورة على أنها مرض من أمراض اللغة كما سماه ماكس موللر، ونظرنا إلى المجاز على أنه افتقار اللغة إلى القدرة على إيجاد المعنى، أما إذا نظرنا إلى المجاز على أنه الأصل في التعبير الشعري والأسطوري على حد سواء، فإننا سندرك أن العلاقة بين الشعر والأسطورة علاقته متينة وقوية تكشف عنها المجازات والرموز المستخدمة فيهما.

وعلى الرغم من هذا الخلاف بين الباحثين حول علاقة الأسطورة بالأدب بعامة والشعر بخاصة، فإن النتيجة التي انتهى إليها أغلب هؤلاء تكمن في أن الأسطورة تلتقي مع الشعر والأحلام في كونها المفتاح الوحيد المتبقي في حضارتنا الذي من شأنه أن يميط اللثام عن أسرار اللغة الرمزية، تلك اللغة التي ما لبثت أن نسيتها البشرية قبل أن تتمكن من الارتقاء بها إلى حيز الكلام الاصطلاحي الجامع على حد تعبير إريك فروم. لكن هذا النسيان لا يعني استحالة قراءة الأساطير، فهناك العديد من المحاولات التي استطاعت أن تلج إلى بحر هذه اللغة وتكشف عن أسرارها، بفضل علم اللغة المقارن وعلم النفس اللغوي واللسانيات والأنثروبولوجيا اللغوية وغيرها من العلوم اللغوية والإنسانية الأخرى.