إن أهم شيء يعنى به البحث في حقل نظرية الأدب أو تاريخ الفن، نشأته ووظيفته وتشكيل صوره ورموزه. وبما أن الشعر يعد من بين أولى النشاطات الفنية للعقلية البشرية، فإن البحث في أصول الفن ومصادره هو نفسه البحث عن بدايات الشعر ومكوّناته. ولن يتأتى هذا البحث على الوجه الصحيح ما لم يتجه في اعتقادنا صوب ميادين علوم الإنسان (الأنثروبولوجيا) والأساطير (الميثولوجيا) وعلم الشعوب والحضارات (الإثنولوجيا) ممثلة فيما تجمع لدى الباحثين في هذه الحقول من نتائج وآثار تدل دلالة واضحة على أن الفن (الشعر) نشأ نشأة دينية من خلال الطقوس والشعار التعبدية القديمة.تذكر بعض هذه النتائج أن الفن، عند نشأته، كان ضرباً من السحر والممارسة الطقوسية الكلامية التي تستهدف أغراضاً سحرية (اجتماعية واقتصادية) مباشرة، ونادراً ما تستهدف أغراضاً جمالية لأن ((الغرض من النظرة السحرية ومن النظرة الفنية كان واحداً في الحياة البدائية)). ومن ثمّ فإنه من الصعوبة بمكان التمييز بين ما هو نفعي وما هو فني عند الإنسان البدائي الذي كان يفعل كل شيء لأجل هدف معين ضماناً لحياته وعيشه.وهذا ما تؤكده النقوش والرسومات القديمة، التي هي برمتها حيوانية تقريباً، والتي يذهب الافتراض إلى القول إن البدائيين كانوا يعتقدون أنه في حال تجسيدهم للحيوان، إنما يكتسبون قوة السيطرة عليه، ولم يكن التمثيل التصويري لديهم سوى استباقاً للنتيجة المطلوبة، فالفنان القديم عندما كان يرسم حيواناً على صخرة أو داخل معبد أو كهف، كان ينتج حيواناً حقيقياً، ذلك أن عالم الخيال والصور ومجال الفن والتذوق والمحاكاة المجردة، لم يكن قد أصبح في نظره ميداناً خاصاً قائماً بذاته مختلفاً عن الواقع ومنفصلاً عنه.تؤكد النظرة السريعة على أقدم مخلفات الفراعنة والإغريق في هذا المجال بشكل واضح أن ((أصول الفن إنما ترجع إلى السحر)) بوصفه إحدى الركائز الاعتقادية والمعرفية في تلك المرحلة من حياة المجتمعات البشرية، وإلى الممارسات الشعبية المعبّر عنها بواسطة الأساطير والأمثال والتعاويذ والأغاني الفلاحية وغيرها، إذ كانت الطقوس والمعتقدات مهداً للفنون والثقافات.وقد رافق الشعر والغناء والرقص والتمثيل دوماً المراسيم الدينية والاحتفالات الفلكلورية. ومع إدراك الإنسان لفكرة الحياة والموت، نشأت العمارة في المقابر والهياكل، وانتشرت الرسوم والمنحوتات رموزاً تجسد قوة غيبية لا تدركها الحواس. وقد توصلت الأبحاث التاريخية في هذا الشأن إلى أن أقدم الأساطير كانت غناء دينياً، ثم صارت ملاحم شعرية بفعل تراجع العنصر الديني فيها، وخير مثال نقدمه على هذا التحوّل (من الأسطوري إلى الشعري)، الملاحم اليونانية القديمة التي عمل المنشدون على إعادة إخراجها وخلقها في صيغة مألوفة ومعدة خصيصاً لمناسبة معينة تتماشى وميول الناس من حولهم. والأمر نفسه نراه عند البابليين وغيرهم من الشعوب القديمة ذات الحضارات العريقة.قد يطول الحديث إذا أوغلنا في ضرب الأمثلة عن أصل الفن وعلاقته بالسحر وبالخصوص أن مجال اهتمامنا في هذه الدراسة هو الشعر وليس الفن إجمالاً، لكن كخلاصة عامة نقول إن الفنان القديم ظل يعتمد السحر بواسطة عبقريته وإبداعه الفني ليضمن العيش والبقاء. وقد كانت الحرف والصناعات والزخارف والفنون الشعبية جزءاً هاماً من هذه الطقوس أو العبادات التي كان لها مظهر سحري منذ فجر التاريخ، حيث كان ((الفنان ينتج فنه ليدعم عقيدته أو ليؤثر على القوى الخارجية فيجعلها صالحة له، محققة لأمانيه، موطدة لأقدامه في الطبيعة التي يعيش فيها))، وقلما نجد فناً من هذه الفنون بعيداً عن الأغراض السحرية.فكل ما أنتجه الإنسان البدائي من رسومات أو صناعات فخارية ونسيجية أو غيرها من الصناعات المرتبطة بحياته اليومية، كان لها مظهر سحري وأهداف معينة. ولذا فإن النظر إلى هذه الفنون على أنها محض نتاج فني أو جمالي شغل به الإنسان القديم نفسه في أوقات فراغه، نظرة تجانب الصواب وتبتعد عن الحقيقة.