ب ـ محمد الخمار الكنوني والبحث عن الحقيقة بين الأموات - اثر التراث الشعبی فی تشکیل القصیدة العربیة المعاصرة نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

اثر التراث الشعبی فی تشکیل القصیدة العربیة المعاصرة - نسخه متنی

کاملی بلحاج

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

ب ـ محمد الخمار الكنوني والبحث عن الحقيقة بين الأموات

إذا كان معظم الشعراء يتحدثون عن الأحياء والمدن، ويتجوّلون في الأسواق يكتشفون خبايا الإنسان وما تنطوي عليه نفسه من جشع وطمع، كما حصل مع صلاح عبد الصبور وبشر الحافي لما نزلا السوق. فإن محمد الخمار في القصيدة التالية قد توجه شطر عالم الأموات والقبور ليعيد الذاكرة إلى الوراء ويقف بالإنسان لحظة على مشارف ماضية داعياً إياه إلى أن يسأل نفسه عن حقيقة تاريخ أسلافه وأجداده، فيستغل تراثاً منسياً محفوراً على شواهد القبور المشتتة هنا وهناك، ويورد ما جاء مكتوباً عليها فيقول:

لا حول

ولا قوة إلا بالله

هذا مرقد زين الناس، وجيه الناس،

غريب الوجه بين هجين الكلمات

المولود ((ببرج الوردة

عام اجتاح جراد السهب مدائن هذا الغرب

وصادف عام الجوع، فكان الآكل والمأكول

إذ صار الناس بطاقات، أرقاماً، وصفوفاً،

وقت اجتاح الجدري الأوجه والأنفس،

أعمى الناس الرمد الآتي، بصراً وبصيرة

أيام غدت في الدور بنات الغرب سبايا

وواحدة للرضع وثالثة للوطء))

المتوفى ((عام اجتاز البوغاز رجال العرب

إلى المدن الدكناء يبيعون الدم والعرق الفوار،

وكان المنبت: أجدر، أجمل، أغنى، أصفى،

قالوا: من غضب أوفر، والميناء

مناديل ودموع ودعاء:

بلدي: شرفي، دين عيشي.

أيام الحرف المجروح، وحرب المقهى والحانات

حروب العصر بكاس وكراسي

زمن التلقيح، ونقد الذات وسب الأباء

أول شيء نلاحظه على هذه القصيدة، هو محافظة الشاعر على النموذج المقروء في الشاهد من الناحية البصرية والشكل العام المتمثل في التقديم والتأخير وترتيب الكلمات والحروف. أما الملاحظة الثانية فتتمثل في عدم ذكره لاسم الميت واكتفائه بقوله ((هذا مرقد زين الناس، وجيه الناس...)) ليخرج من الخاص إلى العام لأن القضية ليست قضية شخص بقدر ما هي قضية شعب وأمة بكاملها.

تتشكل هذه القصيدة، ذات البساطة الظاهرة، من ثلاثة مقاطع، يشغل المقطعان الأخيران منها الحيز الكبير، في حين يتألف المقطع الأول من شطرين فقط ((لا حول))ـ((ولا قوة إلا بالله))، إلا أن المقطع الأشد تأثيراً في اعتقادنا، منه تتصاعد خيوط القصيدة ومعانيها لتفجر كل إدعاء كاذب يؤمن بقوة الإنسان (السلطان) وجبروته، وتؤكد أن القوة لله وحده.

بهذا الاستهلال الصريح والتمرد الصادق يعلن الكنوني عن جانب مهم في رؤيته وتحوله الفكري الغاضب على السلطة وما تمارسه من تزييف وقهر. وبغض النظر عن الدلالات الدينية والاجتماعية والسياسية التي يمكن أن يوحي بها هذا الاستهلال، الذي يأخذ من الناحية الفنية طابع الإشارة والتنبيه، فإن قيمته الحقيقية تكمن في كونه حركة انفعالية حادة نابعة من اقتناع ميتافيزيقي دال على ضعف الإنسان وعجزه أمام قوة الخالق.

يأتي المقطع الثاني والثالث ليؤرخ لمرحلتين متتاليتين: مرحلة الجوع والفقر والمرض ومرحلة الهجرة إلى المدن الدكناء وحرب المقاهي والحانات، وبما أن مرجعية هذا النص شعبية فإن الشاعر قد اتبع طريقة التأريخ الشعبي، وهي طريقة لا تعتمد على لغة الحساب والأرقام بل على ربط الزمن بالأحداث التي جرت فيه، أي أن الزمن في الفكر الشعبي لا يقاس أو يتحدد بالشهور والسنوات، وإنما بالأحداث التي وقعت فيه، فلكل زمن أو تاريخ حدث أو أحداث تدل عليه.

سمحت هذه الطريقة للشاعر بأن يحول الخطاب الشفوي إلى خطاب تاريخي موجه للأجيال اللاحقة فكشف عن تلك الحقب السوداء والمعاناة التي مرت بها الأجيال ولا تزال لأن هذا الخطاب ((كذاكرة تاريخية، لا يكتفي بنقل المعلومات، إنما يعمل على إنتاج وقائع اجتماعية وحالات نفسية جديدة)).

إن توجه الشاعر نحو المقبرة للبحث عن الحقيقة التاريخية الضائعة في كنف الزيف والمغالطة، يكشف عن المأساة التي تمر بها الدول العربية في كتابة تاريخها، كما يكشف عن يأس الشاعر ورفضه القاطع للتاريخ الرسمي الذي تسجله هذه الدول لأنه تاريخ مزيف وغير صحيح.

يلفت الشاعر بهذا الرفض القاطع انتباهنا إلى كنز ثمين من التراث والمعارف التاريخية المنسية، سجلتها الطبقات الشعبية بطريقتها الخاصة عبر معتقداتها وطقوسها، واختارت لها المقبرة تجنباً للضياع وخوفاً من الحاكم. فهو يحفر في الذاكرة ويغوص في ماضي الأجيال ليفتش عن حقائقها وتاريخها كما عاشته، لا كما كتبته عنها الدول والحكومات. وربما الشيء الذي يؤكد صحة هذا التاريخ في نظر الشاعر أنه كتب في مكان مقدس (المقبرة)، ومن ثم فهو أشبه بالكلمات الخالدة والرسالة المقدسة التي ينبغي أن تطلع عليها الأجيال اللاحقة كي تدرك الحقيقة وتعرف صانعيها ومنكريها.

والقصيدة، كما سبقت الإشارة، بصرية يشكل الحيز الذي تشغله الكتابة الشعرية فيها المعمار الرئيسي لبنيتها العامة، وهو معمار خاضع في تركيبه إلى رؤية خاصة وهندسة جديدة مغايرة لبنية القصيدة القديمة، ومن ثم فهو يسهم في تحطيم النموذج الشعري الكلاسيكي المرتبط بعملية الإلقاء والإنصات أو السماع، بخلاف النموذج المعاصر المتعلق بعملية الكتابة والمشاهدة، أكثر من تعلقه بالإنشاد.

إذا كانت الكتابة الحداثية عند بعض الشعراء قد تجاوزت حدود الممارسة الواعية لقواعد البنية المكانية وشروط التواصل بين المكتوب والمفهوم إلى شكلانية زائفة تحتشد فيها الخطوط دون انتظام بشكل ينافي طبيعة الشعر. فإن الكنوني قد حافظ على النموذج المقروء أو المرئي من حيث الشكل العام والمساحة المكتوبة، إن لم نقل إنه ألزم نفسه به حتى لا يقع في التزوير والتحوير اللذين يرفضهما ويرى أنهما سبب غياب الحقيقة وضياعها.

وبما أن القصيدة بصرية ترتكز فيها عملية التواصل على المشاهدة بالأساس، فإنها بعيدة عن الغموض والتعقيد، أسلوبها أقرب إلى السرد والوصف، لأنه الأسلوب الملائم والشائع بين الناس، وكأن الشاعر حاول أن يحافظ على النموذج لا من حيث المعنى فحسب بل حتى من حيث اللغة أيضاً. وقد اكتفى الشاعر بذكر الأحداث دون الإشارة إلى الزمن، لأن المكان مكان موت يتعطل فيه الزمن والقيمة فيه للحدث (ما عمل الإنسان).

/ 62