ب ـ أسطورة تموز (التجاوز والانبعاث)
إذا كان تموز هو إله الخصب عند البابليين، فهو عند المصريين (اوزيريس) وعند الفينيقيين والإغريق (أدونيس). وقد كانت هذه الآلهة الثلاثة ذات دلالة واحدة فهي ترمز إلى النماء والخصب، وللقوة التي تدفع الطبيعة إلى الانبعاث والتجدد والتي يتم من خلالها التحكم في دورية الزمن وتعاقب الفصول وما ينجم عنهما من نمو في الزرع وكثرة المحاصيل. وللإشارة فقد كان الإنسان البدائي يعتقد أن موت الطبيعة سببه موت الإله، ولإنقاذها يتوجب إنقاذ الإله عن طريق إقامة الطقوس والشعائر. ((وسواء كانت هذه القوة التي تدفع الحياة إلى الاستمرار هي أدونيس أو تموز أو إيزيس وأوزيريس أو كانت ملكاً بالفعل، فإن نسيج القصة واحد، وطقوس الاحتفال بموته وبعثه واحدة. ويتألف نسيج القصة أساساً من النقيضين: الموت والبعث، والجدب والخصب، والحزن والبهجة)).وبما أن هذه الأساطير تسعى إلى غاية واحدة، تتلخص في تجديد دورة الحياة وبعث فعل الخصب والنماء في الطبيعة فإن الشاعر المعاصر حاول أن يجعل منها، على اختلاف أسمائها ومصادرها لقباً لتموز، فتجاوز الأسماء ليغترف من النبع مباشرة، فالسيّاب على سبيل الذكر، حاول أن يجعل من الأسطورة السومرية ـ بوصفها أقدم هذه الأساطير نشأة ـ مجاله في استلهام رمز البطل القتيل لكنه كان في كل مرة يُضفي عليه طابعاً ولوناً خاصاً، فهو مرة ذو لون بابلي، ومرة كنعاني، ومرة فينيقي ويوناني، وأخرى مصري.وليس من المستبعد أن يكون هذا الشاعر على درجة عالية من الثقافة الفلكلورية والرموز الميثولوجية فهو يدرك أصول تلك الأساطير ومواطن تداخلها والتقائها، لذا ألفيناه يجمع بين أبطالها وشخصياتها. فأدونيس بطل الأسطورة الفينيقية والإغريقية كان لقباً من ألقاب تموز، الذي كان يعبد عند ((الأقوام السامية في بابل وسوريا ثم أخذ الإغريق عنهم عبادته حوالي القرن السابع قبل الميلاد وكان اسم الإله الحقيقي (تموز). وما التسمية (أدونيس) إلا الكلمة السامية ومعناها (السيد) وهو لقب احترام كان يطلقه عليه عباده)). وربما كان هذا التداخل بين الميثولوجيات المختلفة حول أسطورة واحدة، من الأسباب التي أثرت هذا التنويع في التعامل مع الأساطير، بل وساعدت على اكتشاف مناطق مجهولة من تلاقي الحضارات وهجرة الثقافات.ومثل ما ارتبط (تموز) (بعشتار)، ارتبط (أدونيس) (بأفروديت) مرة بوصفه إغريقياً، و(بفينوس) مرة أخرى بوصفه رومانياً، وكذا الحال في الأسطورة المصرية والكنعانية، حيث ارتبط (أوزيريس ببايزيس) و(بعل بآنات). وقد جسدت هذه الآلهة (ربات العشق والجمال والحكمة) معنى البعث والحياة عبر سلوك دال على عمق التضحية والإخلاص للزوج الإله، في زمن كان فيه الناس ((يعتقدون أن تموز يموت كل سنة متنقلاً من أرض المرح إلى العالم المظلم تحت الأرض، وأن قرينته الإلهية ترحل كل سنة في البحث عنه إلى البلاد التي لا عودة منها، إلى دار الظلام حيث التراب مكوم على الأبواب. وفي أثناء غيبتها تنقطع عاطفة الحب عن الشبوب في الصدر، فينسى الإنسان والحيوان على السواء تكثير جنسه، ويهدد الفناء الحياة))، وهنا يتحتم القيام بطقوس موت تموز من أجل عودته وانبعاثه مع عشيقته، وإلا سيحل الخراب والفناء.من هنا أطل الشاعر العربي المعاصر على عمق المعاناة الإنسانية عبر مسارها التاريخي الطويل منذ أن كان الإنسان يقدم نفسه قرباناً للآلهة حفاظاً على حياته وحياة أبنائه، (فتموز)، من الناحية الرمزية، يموت ليُبعث مرة ثانية، لأن في موته حياة له، وفي حياته موت له، هكذا أرادت لـه الآلهة مغتصبة الخلود، لكنه على الرغم من ذلك سيبقى مضحياً واهباً الحياة للطبيعة ومجدداً لفصولها وتكاثرها.ومن العبث في تصور الشاعر المعاصر، أن لا تكون لهذه التضحية التي بطلها تموز أكثر من معنى.. ولابد للجدب والعقم في الحياة المعاصرة من تموز ينهض بعبء الولادة والانبعاث. ومن ثمّ كان لاهتمام الشاعر بأسطورة (تموز) مبرراته الشعرية ومصوّغاته الفكرية، أضف إلى ذلك أنها الأسطورة التي تلتقي عندها جميع أساطير الفداء والتضحية من أجل إعادة الحياة ودفع الموت بشكل مأساوي حاد.من الفكرة ذاتها انطلق معظم الشعراء المعاصرين كالسيّاب وخليل حاوي وأدونيس في توظيفهم لهذه الأسطورة بحيث أفادوا منها كثيراً، وجعلوها تؤدي أغراضاً دلالية وفنية متعددة. ورأوا فيها رمزاً لثورة عارمة تعيد الحياة الكريمة للشعوب المضطهدة التي تقارع الظلم والطغيان، وانبعاثاً شاملاً لهذه الأمة من غفوتها وانحطاطها.وقد ازداد تمسك هؤلاء الشعراء بهذه الأسطورة وغيرها من البعث والخلاص بعد جملة من الأحداث والتغيرات العميقة في بنية المجتمع العربي وذهنيته من جراء النكبة التي أصابته. وهذا ما جعل أحد النقاد يرى أن عملية توظيف الرموز والأساطير التي شحن بها الشعراء كتاباتهم، إنما هي من فعل النكبة. هذه النكبة والأساطير التي أوحت إلى بعضهم بضرورة النهوض والوقوف إلى جانب النموذج الغربي، غير أن التصدع كان أقوى من كل رؤية متفائلة في البحث عن ميلاد جديد، وبذلك انهار حلم الانبعاث والخلاص الذي زكاه عدم التكافؤ بين الغرب والشرق.وكانت النتيجة أن اضمحلت هذه الأساطير والرموز (رموز الانبعاث)، لتحل محلها رموز أخرى (معظمها صوفية). وهناك من بقي متمسكاً بها لكن موظفاً إياها بطريقة عسكرية أو ضدية كما جاء في قول السيّاب بعد أن تسرب إليه الشك في قدرة تموز على النهوض ونفض أكفان الموت عن نفسه:
ناب الخنزير يشقّ يدي
ودمي يتدفّق، ينساب:
لم يغد شقائق أو قمحاً
ويغوص لظاه إلى كبدي،
لم يغد شقائق أو قمحاً
لم يغد شقائق أو قمحاً