كان المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر إيذاناً بظهور تيارات فكرية ومذاهب أدبية تعددت مشاربها وتنوعت مرجعياتها الفكرية؛ فتباينت تبعاً لذلك أشكالها التعبيرية وآلياتها الفنية وفق أسس شعرية رأى فيها أصحابها القدرة على حمل تجارب العصر الجديدة التي لا تقوى الأشكال التقليدية حملها بالضرورة، مما حذا ببعض الشعراء إلى الإعلان صراحة عن ضرورة استحداث أشكال شعرية جديدة لا تتطابق مع الشكل الذي ارتضاه الشاعر الجاهلي.فرضت تلك المستجدات على الشاعر أن يعيد النظر في منطلقاته الإبداعية ووسائله الفنية التي اعتاد عليها منذ قرون طويلة، ليتحول بذلك تعامله مع التراث من الإذعان والاستسلام إلى القلق والسؤال. فكان طبيعياً أن تتصف مرجعيته بنوع من الاضطراب واللاتجانس الفكري، وهذا ما حدث فعلاً خلال السنوات الأخيرة بحيث اختلف الشعراء في اختياراتهم وإبداعاتهم، فهناك من بالغ في الاستسلام لهذه التغيرات وتلقى إنتاج كل ما يصدره الغرب من تصورات وأفكار، معرضاً نفسه إلى مخاطر التغريب والمثاقفة السلبية، متخلياً عن هويته وخصوصيته الحضارية.وهناك من حاول أن يبلور مشروعاً شعرياً حداثياً يزاوج فيه بين التراث ومتطلبات العصرنة، وبشكل خاص في مجال إبداع أشكال جديدة تسمح للقيم التراثية أن تعيش فيه بكل أبعادها الفكرية والإنسانية.