عندما توقف صلاح عبد الصبور عند ت. س. إليوت قال: ((لم تستوقفني أفكاره أول الأمر بقدر ما استوقفتني جسارته اللغوية)) لكن ما المقصود بالجسارة اللغوية تلك؟ وهل فعلاً أن لغة إليوت هي أهم ما يميز أعماله الشعرية؟ ثم ما هي خصائص هذه اللغة التي استوقفت العديد من الشعراء العرب وليس صلاح عبد الصبور فحسب، فراحوا يقلدونه ويكتبون على منواله؟ يبدو أن صلاح عبد الصبور كان على وعي تام بالمسألة الشعرية، وهي مسألة لغوية بالدرجة الأولى، لأن ما يميز القصيدة المعاصرة ليس هو خروجها عن الأوزان القديمة وطريقة الكتابة والبناء فحسب، بل الذي يميزها فعلاً عن القصيدة الكلاسيكية هو لغتها وقاموسها الشعري، وهو قاموس أسطوري وتراثي بالأساس، فأغلب الشعراء -كما سيأتي الحديث لاحقاً- كانوا يدركون أن اللغة الشعرية القديمة لم تعد تجدي نفعاً في هذا العصر، ومن ثمّ كان الإقبال على لغة التراث الشعبي وأساطيره لما يزخر من رموز وصور شعرية.فلو تأملنا قليلاً شعر الرواد، وأعني السياب، صلاح عبد الصبور، خليل حاوي، يوسف الخال، عبد الوهاب البياتي... لأدركنا فعلاً أن الأساطير والمعتقدات الشعبية كانت عند هؤلاء قاموسهم الثري الذي يستخرجون منه مفردات لغتهم، ويثرون به دلالاته الفكرية والشعورية ويفجرون في نفوس قرائهم -من خلاله- طاقات من الإحساس بتاريخ البشرية عبر قرونها الطويلة، وبهموم الإنسان المعاصر، ومصير الأمة العربية الممزقة بين الماضي والحاضر.إن الجسارة اللغوية التي كان يعنيها صلاح عبد الصبور هي هذا القاموس الشعري أو بالأحرى هذا التراث الإنساني الذي كان يستقي منه ت.س.إليوت رموزه وصوره، يقول هذا الأخير في معرض حديثه عن اللغة الشعرية إن: ((اللغة التي تتداولها كل الطبقات، هي التي تعبر أصدق تعبير عن الانفعال والوجدان)) وقد دفعه هذا الاعتقاد إلى اعتماد هذه اللغة في شعره لما تحمله من إرث حضاري عميق. فكانت النتيجة أن خرج بلغة جديدة قرّبته من الواقع والحياة المعاصرة إلى حد الالتحام بها، ولعل أصدق شاهد على هذه اللغة بصورة خاصة والتراث الشعبي الإنساني بعامة، قصيدته (الأرض والخراب) التي تظهر فيها استعمالاته الفنية لمختلف أشكال هذا التراث.يتضح مما سبق أن اللغة التي كان يبحث عنها الشاعر العربي المعاصر هي نفسها تلك اللغة التي حدثنا عنها إليوت، لغة التراث الشعبي بل لغة الشعوب والأمم المكافحة من أجل البقاء، تلك اللغة التي لا تزال تحتفظ بحرارتها وتتسم بطابعها السحري الخلاب.. اللغة التي تستطيع أن تنفذ إلى أعماق النفوس والأشياء فتترك أثراً فيها أو عليها. إن ((اللغة التي يتداولها الناس قد تكون أحياناً أقوى من لغة القاموس لأنها، عندما تندرج في سياق القصيدة، تتصفى فتصير رمزاً)) شعرياً يحمل في ذاته أبعاداً نفسية وحضارية لا حد لها.أضف إلى ذلك فإن من ميزات هذا التراث اتصافه بالجدية والرمزية والشمول، والخيال الواسع والعاطفة الصادقة والصور الحية المتحركة، وهو إلى جانب هذا يتمتع بلغة ذات طابع سحري عجيب وقداسة كبيرة. وفي أساطير التكوين والأصول، والموت والانبعاث والخلود خير مثال على ذلك. كل هذا دفع الشعراء إلى الالتفات إلى التراث والاهتمام به، بغية البحث فيه عما يثري إبداعاتهم الفنية ويخرج بها إلى طور الجدة والمعاصرة. ويبدو أن القليل من هؤلاء الشعراء الذين عرفوا كيف يستغلون هذه الكنوز ويستثمرونها في قصائدهم استثماراً فنياً يجنبهم الوقوع في التقليد والاجترار.ومن أبرز هذه الكنوز نجد الأسطورة والحكاية والمثل والأغنية والمعتقدات والسير الشعبية. وقد كانت الأسطورة أكثر هذه الأشكال عناية لما تزخر به من رموز ودلالات فلسفية عامة، وتأتي بعدها الحكاية والقصة الشعبية ثم بقية الأشكال الأخرى ومنها السير الشعبية التي كان حظها قليل إذا ما قيس بثرائها الفني والفكري وامتلائها بالأحداث والشخصيات المتنوعة ذات الاتجاهات المختلفة. وقد يعود السبب في ذلك إلى طولها المفرط وعدم اتضاح بعض المواقف فيها والشخصيات، في حين نجد الشعر يعتمد الكثافة والإيحاء واللمحة المركزة، وهو ما لم تركز عليه السير الشعبية، ولذا فإنه من الصعب على الشاعر اختصار هذه المواقف والأحداث في موقف أو حدث واحد. ومن بين الشعراء الذين اهتموا بهذا الشكل الأدبي نجد عبد العزيز المقالح في قصيدته المطوّلة (رسائل إلى سيف بن ذي يزن).تتكون القصيدة من ست رسائل، كلها موجهة إلى سيف بن ذي يزن، كتبها الشاعر ما بين عامي 1961-1971 في أماكن وظروف مختلفة. يدور مضمون الرسالة الأولى والثالثة حول فكرة انتظار عودة سيف بن ذي يزن من المنفى للاستنجاد به، يقول في مقدمة الرسالة الأولى:سفحنا عند ظل الدهر تحت قيودنا ألفاونصف الألفمن أعوامنا العجفاوأنت مشردوبلادنا تدعوك وا ((سيفا))........................أغانيك الحزينة لم تعد نارالقد خمدتتكاد على المدى تخفىفحطم حائط المنفىوجئنا فارساً متوهجاً سيفانثور بهنصول بهلعل بلادنا من ليلها تشفىوفي الرسالة الثالثة:متى تهل من سمائنا الحزينة السوادمتى نرى وجهك يا ((بن ذي يزن))أنهش في انتظارك القيودأطيل في انتظارك الصلاة.. والسجودأقبل التراب والأحجار والدمن........................متى تعود؟متى تهز في أقدامنا القيود؟تقرحت أجفانناتقرحت أجساد شوقنا الغريبونحن في انتظار الشمسفي انتظار القادم العظيموتتعرض الرسالة الثانية إلى خيبة أمل الشاعر لأن سيف بن ذي يزن لن يعود، لقد مات في منجم الفحم يصارع وحش السعال -كما جاء في الرسالة الرابعة-يقولون: ماتأقام لـه الليل قبراً على شاطئ البحر في ((زنزبار))بلا كفن تحت وجه النهارومن حوله ترقد الذكريات........................يقولون: عند ((ثلوج الشمال))وفي ليلة من ليالي الشتاء الحزينوفي منجم الفحم مات يصارع وحش السعالوماتت بعينيه أشواقه والحنينوأطفاله عند أقصى الجنوب عرايايطلون من خلف كوخ الرمالوينتظرون الهداياأما الرسالة الخامسة فهي ندب وبكاء على الوطن والأهل المشردين، وتفجع وحزن كثير:بكيت إذ بكيتك الوطنبكيت أهلنا المشردين، حلمنا الغريب، ذا يزنبكيت حاضراً يضج بالجراحماضياً يعج بالمحن........................نزحت فوق القبر دمع العينشطرته نصفينأسقيت نصفه لأحزانيونصفه الآخرأسقيت اليمانيين في الشطرينأما الرسالة السادسة فهي عبارة عن جواب، أو الرّد الأخير، الذي أنهى الأمل وقطع الانتظار وأسال الدموع. يبدو من هذه الرسالة وكأن الشاعر كان في حالة حلم أو غيبوبة طويلة ثم استفاق على وقع هذه الكلمات قاطعة الرجاء:لا تنتظر..لا تنتظر..لن تمطر السماء أبطالاًوسيف في بادية العراق يحتضرأحلامه، عيناه، في الظلام تنفجروقدماه للدجى موثقتانسيفه جريحوصوته ذبيحيبكي،يثور،يشتكي، يصيح........................لا تنتظر..فبرق الشام خلّبوالفارس القديم لن يعودوالكلمة الأخيرة هذه (لن يعود) تذكرنا بقول بدر شاكر السياف في قصيدته رحل النهار ((هو لن يعود))، هل هو تشابه في التعبير؟ أم إيمان راسخ لدا الشاعرين بعدم الانبعاث والنهوض من الغفوة والتدهور الذي أصاب الأمة العربية في هذا العصر؟مما لا شك فيه أن هذه الجملة تعبر عن استفاقة الشعراء من الحلم الذي رسمته النهضة العربية في بدايتها، فالتحوّل الذي بدا في الأفق مع مطلع هذه النهضة، والذي عبر عنه الشعراء بوسائل فنية كثيرة منها أساطير الموت والانبعاث، سرعان ما تكشّف عن خيبة أمل حادة، لأن ((التفاؤل الناشئ عن هذا الضرب من التحول، لا يمكن أن يكون إلا تفاؤلاً وهمياً، لأنه ناتج عن ثقة لا متناهية بقدرة الكلمة على إحداث تغيير مادي في الواقع المعيش، مع أن مهمة الكلمة، مهما كانت قيمتها، إنما تنحصر في إحداث تغيير نسبي)) على مستوى الفكر والشعور، لكن الواقع شيء آخر أكبر من أن تؤثر فيه الكلمات والخطب.فسيف بن ذي يزن المعوّل عليه في هذا الانبعاث قد مات كما مات غيره من الأبطال، ومن العبث انتظاره أو الاستنجاد به. وفي هذا إشارة من الشاعر إلى أن الاعتماد على الماضي في بعث هذه الأمة وهم وزيف، فالانبعاث لا يتحقق بغير العمل والتضحية. وتكاد هذه الفكرة أن تكون عامة عند الشعراء فالسياب وأدونيس وحاوي كلهم عانوا من زيف الانبعاث الطبيعي كما ترسمه الأساطير، وعادوا إلى القول بالتضحية لأن لا شيء يأتي بغيرها. ذكرنا فيما سبق أن من الصعب على الشاعر اختصار كل الأحداث والمواقف التي تزخر بها السيرة في حدث أو موقف واحد، فما صنع عبد العزيز المقالح بقصة سيف بن ذي يزن في قصيدته تلك؟ هل وظف الشاعر بعض العناصر وأغفل بعضها الآخر أم أنه استلهم روح هذه القصة ومغزاها فقط؟ليس من مهمة الشاعر أن يتمسك بكل ما جاء في القصة من تفاصيل وأحداث ومواقف، فهو يختار ما يخدم تجربته الشعرية ويزيدها عمقاً في نفسية قارئه. فعندما نقرأ هذه القصيدة نشعر وكأننا نعيش أجواء هذه السيرة بأحداثها وتفاصيلها بل ومواقف بطلها سيف في صراعه مع الأحباش والروم، لأن الشاعر كان يعتمد على تقنية (الفلاش بك)، فهو من حين إلى آخر يفتح نافذة تاريخية على حدث من أحداثها كذكرة لكسرى ملك الفرس وأبرهة ومنية النفوس محبوبة سيف، فيشعر القارئ وكأنه يتابع السيرة ذاتها بأسلوب شعري رصين. أضف إلى ذلك الجو المسيطر على القصيدة وهو جو مأساوي (حزن، بكاء)، الذي يذكرنا بدوره ببعض الحالات النفسية التي كان يمرّ بها سيف بن ذي يزن نفسه. وهي حالات تشبه الحالات التي كان يمر بها الشاعر من شدة حزنه على وطنه.وإذا كانت السيرة تصور سيف بن ذي يزن فارساً قوياً وشجاعاً لا تقف أمامه الحدود ولا تثني من عزيمته الشدائد والخطوب، فإن القصيدة تقدمه في صورة أخرى مخالفة للأولى، إن لم نقل مناقضة لها في كل شيء إلا الاسم:الفارس القديم لن يعودقوائم الحصان في الرمال غرقتتحولت إلى حجروفارس الحصان موثق القيودأيامه تناثرت على صخور الحزن،وجه عمره انكسرفي هذه الصورة إشارة من الشاعر إلى أن اليمن لم يعد ينجب أبطالاً مثل سيف بن ذي يزن يستطيعون تحريره من القيود، ولذا فليس بوسعه الآن إلا الحزن والبكاء. وتزداد صورة اليمن قتامة عندما يتساءل الشاعر عن قبر سيف وقبر أخته عاقصة وخادمه عيروط، فلا يجد جواباً عند أحد، فكيف لهذا المجتمع أن ينهض وهو لا يدري تاريخه وأبطاله.أين ينام مثخن الجفون سيفأين تنام (عاقصة)أين اختفىفي أي قمقم ثوى (عيروط)الأفق غام والدروب عابسةوالنفق الرهيب لم يزل يمتد...بهذه الكلمات المحزنة ينتهي مشهد سيف صانع البطولة والمجد، وينتهي معه أمل الشاعر بل وأمل الأمة العربية جمعاء.وبالإضافة إلى هذه السيرة فقد استعان عبد العزيز المقالح في قصيدته تلك ببعض الأساطير اليونانية كأسطورة (سيزيف) وأسطورة (عوليس) وزوجه (بنيلوب) وأسطورة (برومثيوس) و(أخيل)، وأسطورة السندباد العربية، وبعض الأسماء التاريخية مثل (مأرب) و(زنزبار) وهما أسماء أمكنة، و(يكسوم) الحاكم الحبشي لليمن في ظل الاحتلال، و(بدربان) المدينة التي كان بها عدد كبير من المهاجرين اليمنيين في جنوب إفريقيا.لكن على الرغم من ذكر الشاعر لكل هذه الإشارات والرموز الأسطورية، فإن أسطورة سيف بن ذي يزن ظلت هي المسيطرة على أحداث القصيدة وأجوائها، إن لم نقل أنها كانت العنصر الأساسي في بنائها وتشكيل نسيجها. والشاعر لا يقوم بتضمين عناصر هذه الأسطورة فحسب بل يستنطقها ويستلهمها للتعبير عن رؤيته للواقع الراهن. أما بقية هذه الرموز فقد كانت بمثابة الروافد التي تصب في بحر هذه القصة فتغذيها برمزيتها مبرزة كفاح الإنسان الطويل من أجل وطنه وكرامته. فيرومثيوس وسيزيف وعوليس والسندباد أوجه أخرى لسيف بن ذي يزن وغيره من الأبطال الثائرين على الظلم والاستبداد والتقاعس عن طلب الحرية.وانطلاقاً من هذه القصيدة يمكن القول بأن مرجعية عبد العزيز المقالح الشعرية مرجعية تراثية يمانية في الدرجة الأولى. وعليه فإن ((قراءة نصوصه وربما نصوص غيره من الشعراء المحدثين في اليمن، تبدأ من هذه العلاقة. أي من رؤية هذه النصوص في الواقع الثقافي اليمني)) فسيف بن ذي يزن بطل يماني وحضوره في القصيدة يعني حضور الشخصية اليمانية بكل أبعادها النفسية والحضارية والإنسانية. ويمكن اعتبار هذا الاستخدام أيضاً شكلاً من أشكال إثبات الوجود عن طريق الفعل الشعري المهاجر عبر الثقافات والنصوص.لكن هذا لا يعني أن الشاعر لا يهتم بالثقافات الأخرى، فهو إلى جانب هذا يفيد من الثقافي العربي والإنساني كما رأينا في استخداماته للأساطير اليونانية والعربية، لكن هاجس إحياء التراث اليمني ونشره كان دائماً شغله الشاغل، وبالخصوص إذا علمنا أن هذا التراث -بحكم ظروفه وتاريخه- يعاني من صعوبة التواصل مع الثقافات الأخرى حتى العربية منها.وفي مقابل هذه الصورة نجد صورة أخرى للبطل الشعبي عنترة العبسي يصنعها محمد الفيتوري من السودان، يقول فيها:نحن العرب..عنترة العبسي فوق صهوة الفرسيصرخ في الشمس فيعلو الاصفرار وجههاوترجف الجبال رهبة، وتجمد السحبلأنه قهقه أو غضبلأنه ثرثر أو خطبلأنه النار التيتفرخ ذرات الرماد والحطبإذا كان سيف بن ذي يزن كما تصوره قصيدة عبد العزيز المقالح السابقة غير قادرة على تلبية النداء بسبب ضعفه واحتضاره، فإن عنترة يبدو في صورة مخالفة لـه تماماً، فهو البطل الشجاع القوي الذي ترجف الجبال رهبة منه وتجمد السحب. وبالتالي فنحن أمام صورتين مختلفتين كل واحدة منهما تعكس حالة حضارية واجتماعية معينة، ضعف في اليمن وقوة في السودان. لكن أليست هذه مفارقة عجيبة في بلدين عربيين ينتميان إلى تاريخ مشترك؟ أم أن السياسة في اليمن غيرها في السودان؟على العموم فإن ذكر الشاعر لاسم عنترة بطل السيرة الشعبية المعروفة في جميع أنحاء العالم العربي، هو بشكل ما تأكيد للبعد التاريخي لهذه الشخصية، وهو بعد يمكنها من التحول دون الانزلاق إلى فيافي اللاوجود. فبعد أن أثبت الشاعر هذا البعد أو الوجود الحقيقي لهذه الشخصية، انتقل بها إلى بعد آخر هو البعد الأسطوري حيث تحولت هذه الشخصية إلى إله أو نصف إله يتحكم في مظاهر الطبيعة، يصرخ في الشمس فيعلو الاصفرار وجهها وترجف الجبال وتجمد السحب عن الحركة. ولكي يحافظ الشاعر على البعد التاريخي داخل البعد الأسطوري لجأ إلى جملة من الأفعال المستعملة من طرف الإنسان كقوله (يصرخ، يعلو، ترجف، تجمد) فهذه الأفعال مرتبطة بالفعل الإنساني أكثر من ارتباطها بالفعل الإلهي.وبالجمع بين هذين البعدين (التاريخي أو الواقعي والأسطوري) استطاع محمد الفيتوري أن ينتج شخصية غير قابلة للموت أو الانكسار، فعنترة، بفعل تلك الأسطورية، أصبح شخصية مقدسة وخالدة. وفي هذا دلالة على أن البطولة في العرب لا يمكن أن تنتهي أو تزول، فالأمة التي أنجبت عنترة لا تزال تنجب من أمثاله في الشجاعة والقوة. وهنا يظهر تفاؤل الشاعر بالواقع العربي ومستقبله، بخلاف عبد العزيز المقالح الذي أبدى تشاؤماً كبيراً من هذا الواقع كما سبق وأن أشرنا إلى ذلك.أما أمل دنقل فيوظف هذه الشخصية (عنترة) للتعبير عن الصراع الحاد بينه وبين السلطة، فسادة القبيلة وكبراؤها، هم السلطة، وعنترة العبد الذي يقع على عاتقه الدفاع عن هذه السلطة بكل الوسائل التي يمتلكها، وعندما يحقق لها النصر، لا يلقى شكراً ولا عرفاناً، بل مزيداً من الهجر والنسيان:ظللت في عبيد (عبس) أحرس القطعانأجتزّ صوفها..أردّ نوقها..أنام في حظائر النسيانطعامي: الكسرة.. والماء.. وبعض التمرات اليابسة.وهاأنا في ساعة الطعانساعة أن تخاذل الكماة.. والرماة.. والفرساندعيت للميدان!أنا الذي ما ذقت لحم الضأن..أنا الذي لا حول لي أو شأن..أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان،أدعى إلى الموت.. ولم أدع إلى المجالسة!!لا يزال عنترة (المثقف العربي)، كما يصوره هذا المقطع، يعاني من الحرمان والهجران، وهو سبيل التقدم والتحرر، يدعى إلى الموت ولا يدعى إلى المجالسة والمشاورة. وفي استخدام الشاعر لهذه الشخصية إشارة ذكية إلى أن السياسة والسلطة في الوطن العربي لم تتغير منذ العصر الجاهلي، فهي لا تزال تسير وفق التمييز العنصري والعصبية القبلية. وقد يرمز (عنترة) هنا إلى الشعب العربي الذي تركه الحكام في صحراء الإهمال يسوق النوق إلى المراعي ويحلب الأغنام وينام في الحظائر، حتى إذا ما أنشبت الحرب أظفارها، أسرعوا إليه مستصرخين يدعونه للدفاع عن أموالهم وأنفسهم.وإلى جانب سيرة عنترة، فقد استخدم أمل دنقل سيرة (الزير سالم) في قصيدته (لا تصالح) ليعبّر من خلالها عن قضية الصراع العربي الإسرائيلي محذراً رئاسة مصر من مغبة الوقوع في قبضة إسرائيل بإقامة الصلح معها. تتألف هذه القصيدة من عشرة مقاطع أو وصايا على غرار وصايا كليب العشرة، يبدأ كل منها بنهي (لا تصالح!)، بل الشاعر نفسه لا يتوانى في التصريح بأن ما يكتبه هو ذاته ما جاء على لسان كليب، فهو يقدم لقصيدته بهذه الوصايا قائلاً:((.. فنظر (كليب) حواليه وتحسر، وذرف دمعة وتعبّر، ورأى عبداً واقفاً فقال له: أريد منك يا عبد الخير، قبل أن تسلبني، أن تسحبني، إلى هذه البلاطة القريبة من هذا الغدير، لأكتب وصيتي إلى أخي الأمير سالم الزير، فأوصيه بأولادي وفلذة كبدي.. فسحبه العبد إلى قرب البلاطة، والرمح غارس في ظهره، والدم يقطر من جنبه.. فغمس (كليب) إصبعه في الدم، وخطّ على البلاطة وأنشأ يقول..)):لا تصالح!.. ولو منحوك الذهبأترى حين أفقأ عينيك،ثم أثبت جوهرتين مكانهما..هل ترى..؟هي أشياء لا تشترى..........................لا تصالح على الدم.. حتى بالدملا تصالح! ولو قيل رأس برأس،أكل الرؤوس سواء؟!أقلب الغريب كقلب أخيك؟!أعيناه عينا أخيك؟!وهل تتساوى يد.. سيفها كان لكبيد سيفها أثكلك؟أول شيء يمكن لقارئ هذا النص أن يلاحظه، استعمال الشاعر لبعض المفردات والمعاني نفسها الواردة في نص السيرة الشعبية مثل لفظة (لا تصالح) التي تكررت كثيراً في النصين (السيرة والقصيدة) وكانت بمثابة البؤرة التي تنجذب نحوها جميع المعاني والصور. وقول الشاعر في مطلع هذا النص: ((لا تصالح.. ولو منحوك الذهب)) لا يختلف عن قول كليب للمهلهل لا تصالح ولو أعطوك مالاً مع عقود. لكن هذا لا يعني أن الشاعر قد وقع في التكرار أو التقليد لما جاء في السيرة الشعبية، بل العكس هو الصحيح، لأن الشاعر منح هذه الأشكال حياة جديدة باستخدامه لها ضمن إطار معاصر وقضايا حديثة. وقد أطلق علي عشري زايد على هذه الطريقة في التعامل مع التراث اسم (مرحلةالتعبير بالموروث)، أي: (توظيف التراث توظيفاً فنياً للتعبير عن التجارب الشعرية المعاصرة) بدل (التعبير عن الموروث) الذي هو شكل من أشكال استنساخه أو تسجيله، وهذه الصيغة الأخيرة (التعبير عن الموروث) هي التي حكمت علاقة الشاعر بالتراث فترة طويلة.