ج-التحوّل نحو السحري واستقراء الغيب (التدمير من أجل البناء)
تشكل المعتقدات عند مختلف الشعوب النمط الأصلي والترميز الأولي الذي ينبغي المحافظة عليه عن طريق إحيائه في المناسبات ومظاهر الحياة اليومية، فهي المادة التي تتشكل منها الأفكار وتطبع التصورات والمواقف، وبالخصوص في المجتمعات المتخلفة ذات الأساليب الأسطورية في مواجهة الواقع. وتأتي في مقدمة هذه المعتقدات، الممارسات السحرية بوصفها أرقى الأشكال وأضمنها، من المنظور الشعبي، في الحصول على النتائج المرغوب فيها، واستعلام الغيب ومعالجة المشاكل الاجتماعية والنفسية كاستجلاب الحظ والنجاح وإبعاد الشر والضرر.إلى جانب هذا فإن للسحر وظائف معرفية تتمثل في سد الثغرات في المعرفة الناتجة من عجز الإنسان في فهم الظواهر الطبيعية وما غمض منها. وهو من هذه الناحية رد فعل لشعور هذا الأخير بقصوره وقلة علمه بالمستقبل والغيب. ويعدّ الشعراء، بفعل وعيهم الثقافي والمعرفي، أول الناس شعوراً بهذا القصور وأشدهم حرصاً على المعرفة والتنبؤ بالغيب، لذا راح بعضهم يشبه نفسه بالساحر والعراف والمنجم الذي يستقرئ الغيب ويطلع على الأسرار يقول أدونيس:ساحر أنا واسمها البخور والجرنساحر وهي مجامري وهيكلي في بدايات الجمرأتطاول في كثافة الدخانراسماً شارات السحرساحراً جرجهاويقول:أنا هو الواضع كالعرافويقول:قرأت النجوم، كتبت عناوينها ومحوتراسماً شهوتي خريطةودمي حبرها وأعماقي البسيطةيحي أدونيس في هذه المقاطع علاقة الشاعر بالساحر ويعيد للشعر وظائفه التي رافقته منذ نشأته في زمن كان الاحتفال فيه بالشعراء عند القبائل العربية أعظم من الاحتفال بالسحرة أو الكهنة. وإذا كان الاعتقاد العربي القديم يعتبر الشاعر وسيطاً بين عالم الجن وعالم الإنس، وأن دوره لا يتعدى نقل الأخبار التي توحي لـه بها الجن. فإن أدونيس قد تجاوز هذا الاعتقاد إلى طرح أكبر يمنح الشاعر الريادة والتفرد في الخلق والإبداع والتغيير بحيث يصبح تأثيره أعمق وأوسع، يتسامع به الناس في كل زمان ومكان.إن تقمص أدونيس شخصية الساحر دليل على رغبته الجامحة في امتلاك سر الكلمة، لأن الاعتقاد السائد لدى بعض الشعراء -وهو اعتقاد قديم- أنه من امتلك الكلمة، فقد امتلك القوة والسلطة، بل وأكثر من ذلك فهو يمتلك ناصية الأشياء التي يصبح بها قادراً على التأثير والتغيير واختراق الجاهز والمألوف. ومن ثمّ كانت الكلمة عند أدونيس رحم لخصب جديد ومجامر تحترق فيها الذات لتتطاول دخاناً راسماً التحول والانبعاث.