وعلاقة الشعر بالمعتقدات والطقوس علاقة قديمة جدّاً، كما سبق وأن أشرنا إلى ذلك في الفصل الأول، سواء من حيث نشأتهما وارتباط أحدهما بالآخر، أو من حيث وظيفتهما واعتمادهما على لغة الرموز. ولتوضيح هذه الفكرة أكثر نقف قليلاً عند هذه الأسطورة التي تقول أن البدائيين كانوا يعتقدون أن العالم مهدد دورياً بالتدمير والخراب بسبب تآكل الزمن، ولإيقاف صيرورة هذا التدمير يجب خلق الكون، دورياً، من جديد بواسطة طقوس وشعائر معينة تتلخص في تكرار أعمال الخلق.وأول هذه الدورات، دورة الليل والنهار، فالغروب تهديد للحياة بانتهاء أجلها. وارتقاب مطلع الشمس أمر ضروري يستلزم طقوساً وأدعية، كتلك التي كان يقوم بها فرعون عند كل فجر حيث يقيم شعائر الإشراق معتقداً أنه بهذا الفعل سيحرر الشمس من قبضة الأموات.يا روح الشمس... استيقظ بسلام..أنت يا ذا النور المضيء الطاهر..إنك أنت الذي تشرق على كل مكان بنورك..ونور عجلة النار التي تركبها.لا تغضب علينا وتنزل بنا نقمتكأظهر في سلام..يا حسن الوجه..يا ربّ الأشعة..يا خالق النورفالشمس هنا تعني ميلاد حياة جديدة، لأن غيابها يرمز إلى موت الإله، وبالتالي إلى العذاب ونزول النقمة. والنص عبارة عن طقس سحري فيه تضرع وتقديس لهذه الروح المتحكمة في الإشراق، وبغض النظر عن التركيبة اللغوية لهذا النص، فإن قمته الحقيقية تكمن في وظيفة الرمزية ودلالته كرسالة متميزة لا تفصح عنها اللغة إلا من حيث هي شفرة.وثانيها دورة الفصول (الشتاء والربيع)، فيغدو العالم ميتاً خلال الفصل الأول، مما يجعل الإنسان يسارع إلى الطقوس التي من شأنها أن تعيد لـه الحياة، كالرقص الشعائري في البساتين والحقول، فتخصب الأرض ربيعاً وينمو الزرع ويحي العالم من جديد. لأن الاعتقاد السائد عند البدائيين هو أن موت الطبيعة وحياتها جزء لا يتجزأ من موته وحياته، ومن ثم فهما معاً في حاجة إلى تجديد حياتهما عن طريق إقامة طقوس ومراسيم شعائرية سنوية تسمح بإعادة الخلق والاتصال بالزمن الأول، زمن الخلق. وللإشارة فإن تكرار تلك الطقوس عبر الأيام والسنوات، لم يكن مجرد فعل آلي روتيني، كما قد يتبادر إلى بعض الأذهان، وإنما هو إعادة حقيقته للحياة في نظر البدائيين.كانوا البدائيون ـ بهذا الأسلوب الرمزي ـ يواجهون عصف الحياة، وهم لا يملكون أدنى شروط العيش، وعلى الرغم من بساطة هذا الأسلوب فإنه استطاع أن يكون وسيلة خلاص، تعيد الأمل للنفوس، وترغبها في التجدد والانبعاث. وهو ما يفسر اليوم تمسك الشعوب بمعتقداتها ومعارفها ـ وإن بدت ظاهرياً متخيلة عنها ـ فهي تلجأ إليها من حين إلى آخر في المناسبات والولائم لتحقيق غايتها وأهدافها الروحية والسحرية على الخصوص.ولا غرور أن نجد هذا الخلاص مبحث الشاعر المعاصر الذي رأى في ذلك الإرث الطقوسي والمعرفي الذي أنتجه أسلافه، طريقاً لإنقاذ الحياة من الخراب المحتمل، بسبب الخطايا والشرور التي يرتكبها الإنسان دون أن يعبأ بنتائجها. وقد جاءت صيحة كبار شعراء العصر الحديث لتؤكد هذا الاتجاه وتعمل على تأسيسه وترسيخه، بعد أن مهد لـه شعراء المذهب الرومانسي بنزعاتهم التأملية والصوفية.والنص الشعري المعاصر الذي سنورده بعد قليل يشبه إلى حدّ كبير في مضمونه هذه الطقوس والمعتقدات، مما يؤكد الطرح الذي يقول بتواشج النصوص وتعالقها، وأن الإنسان واحد وإن تطوّر حضارياً، فهو لا يزال إلى يومنا هذا يصنع المعتقدات والأساطير، ويواجه الحياة والكون بالأسلوب نفسه الذي كان سائداً عند أسلافه، بل وأكثر من ذلك فهو يعتقد أن الحياة في حاجة إلى بعث جديد بواسطة التوسل إلى الآلهة والتقرب منها:يا إله الخصب، يا بعلا يفضالتربة العاقريا شمس الحصيديا إلها ينفض القبرويا فصحا مجيد،أنت يا تموز، يا شمس الحصيدنجينا، نج عروق الأرضمن عقم دهاها ودهاناأدفئ الموتى الحزانىوالجلاميد العبيدعبر صحراء الجليدأنت يا تموز، يا شمس الحصيدهذا المقطع من قصيدة (بعد الجليد) التي تعبر، كما جاء في المقدمة التي استهل بها حاوي قصيدته عن معاناة الموت والبعث، من حيث هي أزمة ذات وحضارة، وظاهرة كونية. والقصيدة صورة مصغرة لمأساة الإنسان العربي في تخلفه وانحطاطه، وعجزه عن بعث حضارته. حاول خليل حاوي من خلالها أن يجسد رؤيته للواقع العربي المعاصر، الذي أصبح في نظره كومة جليد لا تنبت إلا البرد والصقيع.وأمام هذا الواقع المتجمد، ومظاهر الحياة التي تعطلت وأصابها التعفن والانحلال، والشمس التي غابت وانطفأ نورها، لم يكن أمام الشاعر من طريق سوى طريق استعطاف آلهة الخصب والتقرب منها بصلاة توسلية مليئة بالرموز الوثنية الكنعانية والبابلية والابتهالات التي تعم زمن الجدب والجفاف.وقد اهتدى الشاعر بوحي من تجربته الروحية والوجودية إلى تلك الرموز التي كان يؤمن بها البدائيون، فهو يتوسل للإله بعل كي يشق الأرض ويفض رحمها، وكأنها امرأة عاقر لا تنجب إلا ببذار بعل مغتصب الأرحام عبر الكهان، ثم يتوجه إلى الشمس إلهة الحصيد والغلال، ويناشد المسيح أن يشق القبر ويبعثر تربته، ويبث الحياة عبر الفصح. ثم يقف أمام باب تموز يسأله نجاة وخصبا، لأن الأرض صارت صحراء كلس يغطيها الجليد ويسيطر فيها العقم. لقد ماتت العروق وجف ماؤها، وانتشرت جثث الأموات متراكمة يدفع بعضها بعضاً، وتحوّل الناس إلى جلاميد من العبيد لا يقوون على شيء.يصحو الشاعر فجأة من غفوته ودعائه كالإنسان البدائي الذي فقد الثقة بآلهته، لأن هذه الآلهة هي الأخرى عاجزة عن بعث الحياة من جديد بسبب عمق الفاجعة وشدة الخراب الذي أصابها:عبثا كنا نصلي ونصليغرقتنا عتمة الليل المهلعبثا نعوي ونعوي ونعيدعبر صحراء الجليدنحن والذئب الطريدلم تفلح الأدعية والابتهالات، لأنها تشبه أصوات الذئاب الطريدة الجائعة وسط ظلمة الليل وصقيعه الجاثم على الأرض. بهذا اليأس ينتهي حاوي إلى أن البعث مستحيل والانتظار حلم عقيم، وماذا يمكن أن يجدي ضحايا السأم لملعون؟وليموتوا مثلما عاشوابلا تاريخ، موتى لا يحسون الهلاكوبقليل من التأمل في هذا المقطع يتضح أن هذه المعتقدات لم تأت جزءاً إضافياً مكملاً للمعنى، أو موضحاً له، يمكن الاستغناء عنه، كما هي الحال في الشعر القديم، بل هي من مكونات القصيدة وأجزائها الأساسية التي قام عليها المعنى والمبنى بحيث استطاعت أن تجسد رؤيا الشاعر من جهة، وتعبر عن المعاناة التي يمر بها المجتمع العربي المعاصر من جهة أخرى.فالطقس التموزي وما يرمز إليه من غلبة الحياة والخصب على الموت والجدب، والعنقاء التي تموت ثم يلتهب رمادها فتحيا ثانية، هما المحوران اللذان تتفرع عنهما خيوط القصيدة لتجسيد الرؤيا وترسم الظلال، وذلك عبر الانتقال من الشعري إلى الأسطوري، حيث تشحن الكلمة بالسحر وقوة الإيحاء والترميز التي تجعل منها سلاحاً شديداً، لا شيء يستطيع مقاومة أثرها.وهذا الانزياح من اللغة الشعرية إلى اللغة الأسطورية، هو ما يميز التجربة الشعرية المعاصرة التي أصبحت قاب قوسين أو أدنى من تجربة الإنسان البدائي حين كان يواجه الكون والعالم بالكلمة، ويرى أنها سبيل خلاصه وفرض وجوده. لقد أدرك الشاعر المعاصر هذا السبيل وعرف ما تزخر به الكلمات من قوة وأثر، إن أزيح عنها الصدأ الذي أصابها من جراء استعمالها المكرور والمنتظم. ومن ثم فهو لا ينظر إلى الكلمة على أنها وسيلة لغوية للتعبير عن شيء ما، أو مجرد صوت ودلالة جاهزة مسبقاً، وإنما هي وجود وحضور لـه كيان وجسم. وهنا تلتقي نظرته بنظرة الساحر أو صانع الأسطورة، لأن كليهما ينظر إلى الكلمات على أنها كائن حي قادر على التغيير وإحداث الأثر.إن ارتكاز خليل حاوي على ثنائية الموت (عصر الجليد) والحياة (بعد الجليد)، جعل القصيدة تنقسم إلى حركتين، تندفع الأولى منهما من منبع الإحساس بالمأساة وصورها، وتأتي الثانية لتنمي هذا الإحساس إلى درجة الكمال حيث تتجلى شبكة من علاقات التبادل، تفاعلت من خلالها الدلالات والرموز وتبادلت الأدوار فيما بينها.فمن خلال الترابط المتبادل بين بعل وتموز والعنقاء والمسيح من جهة، والرمز المركزي للقصيدة (الجليد) من جهة ثانية، وتوحّد الذات بالموضوع من جهة ثالثة، تبرز رؤيا الشاعر وتنكشف طريقته في التعامل مع الموروث الثقافي والحضاري. وهي طريقة ترتكز على امتصاص القيم الحضارية الخالدة التي أفرزتها المخيلة الشعبية عبر مسارها التاريخي الطويل وإعادتها بشكل جديد تتجلى من خلاله وكأنها تظهر أول مرة.إذا كان أحمد المعداوي يرى شرخاً عميقاً في هذه القصيدة بين الواقع المادي والواقع الأسطوري الغيبي، وأن الذات الشاعرة ليست طرفاً فاعلاً في صنع الأحداث، وإنما هي من نصيب البطل الأسطوري، لأن الأمر كله معلق بقوى غيبية هي التي تقرر وتحدد النتائج، فإن هذا الرأي قد يصبح صحيحاً إذا ما سلمنا سلفاً بهذه التجزئة، ونظرنا إلى ذلك الموروث على أنه جزء إضافي مكمل للمعنى، لجأ إليه الشاعر لتوضيح أفكاره، كما سبق وأن أشرنا.أما إذا نظرنا إليه على أنه جزء لا يتجزأ من القصيدة ومكوّناتها الدلالية، فحينئذ سندرك هذا الارتباط بين الواقع المادي والواقع الأسطوري، وكيف أنهما يشكلان لحمة واحدة، وأن ما نسميه واقعاً أسطورياً، ما هو في الحقيقة إلا واقع مادي حقيقي، ذلك أن الأسطورة، كما يقول مالينوفسكي ركن أساسي من أركان الواقع والتاريخ والحضارة الإنسانية، فهي تعزز المعتقدات، وتصون المبادئ الأخلاقية، وتنطوي على قوانين عملية لحماية الإنسان من الأخطار والمكاره.وبهذا يتضح أن اعتماد خليل حاوي على هذا الجانب الثقافي المتأصل في عمق تاريخنا وحضارتنا، إنما محاولة منه ربط الماضي بالحاضر عبر رؤيا شعرية بإمكانها تقديم صورة واضحة عن واقعنا ومستقبلنا.