ب- الهجاء وطقوس السحر - اثر التراث الشعبی فی تشکیل القصیدة العربیة المعاصرة نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

اثر التراث الشعبی فی تشکیل القصیدة العربیة المعاصرة - نسخه متنی

کاملی بلحاج

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

ب- الهجاء وطقوس السحر

وفي الهجاء مثال آخر عن علاقة الشعر بالتراث الشعبي، وهذه المرة بالممارسات السحرية على وجه الخصوص، فقد ذهب بعضهم إلى القول بأن الهجاء بدأ طقساً سحرياً وممارسة قائمة بذاتها يراد بها إلحاق الأذى والضرر بالعدو، مستدلين على ذلك بأخبار كثيرة منها ما ذكره الشريف المرتضي في أماليه من أن الشاعر كان إذا أراد الهجاء لبس حلة وحلق شعر رأسه إلا ذؤابتين، ودهن أحد شقي رأسه، وانتعل نعلاً واحدة، كما فعل لبيد بن ربيعة عندما أراد أن يتصدى لموقف الربيع بن زياد حين أوغر صدر النعمان على بني عامر.

وقد قيل إن حسان بن ثابت كان يخضب شاربه بالحناء حتى تتخذ لون الدم، اعتقاداً منه أن هذا اللون يضاعف من قدرة الرجل على الهجاء وبالتالي إصابة الهدف، وهو اعتقاد قديم كانت تلجأ إليه الجماعات الإفريقية حينما تعمد إلى تلوين أجسادها بالخطوط والأشكال المختلفة حين خروجها إلى الصيد أو مواجهة الأعداء.

كل هذا يدفعنا إلى الاعتقاد بأن الهجاء كان ضرباً من ضروب السحر التشاكلي الذي تحدث عنه سير جيمس فرايزر الذي يهدف إلى إحداث أثر الشعيرة بجزأيها العملي والقولي في التأثير على الآخر. يقول عبيد بن الأبرص:




  • صقعتك بالغر الأوابد صقعة
    خضعت لها، فالقلب منها جريض



  • خضعت لها، فالقلب منها جريض
    خضعت لها، فالقلب منها جريض



لو تأملنا قليلاً هذا البيت لوجدناه يرتكز على معتقد سحري قديم يعطي للكلمة الصدارة الأولى بوصفها القوة التي يستطيع بها الإنسان أن يقهر عدوّه، لأن الكلمة عند البدائيين لا تعني القول فقط، وإنما الفعل أيضاً، وبعبارة أخرى فإن الكلمات عند هؤلاء لا تصف الأشياء فحسب، وإنما تحاول إحداث أثر فيها لأنها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بجوهر الأشياء والمخلوقات التي تعبر عنها. فالشاعر هنا صقع عدوّه بالكلمة، لأن الأوابد، الواردة في البيت تعني الكلمات أو القصائد، فكانت النتيجة خضوع العدو وتقهقره أمامها. وربما لهذه الأسباب وصفت قصيدة الهجاء بأنها قصيدة غريبة يخاف منها الجميع.

قد يطول الحديث إن نحن تتبعنا كل الأغراض الشعرية وكشفنا عن علاقتها بجانب من جوانب الثقافة الشعبية أو بالأحرى الحياة الشعبية البسيطة بمعتقداتها وتصوراتها. ويكفي هنا أن نشير إلى ما كتبه شوقي ضيف حول هذه العلاقات وكيف أن الشعر العربي ظل على مرّ العصور يحمل طوابع شعبية قديمة وحديثة، وأنه عما قريب ((ستتم للشعر الفصيح طوابعه الشعبية وتتكامل، ولا يعود يشعر بمزاحم لـه من الشعر العامي))، ويبدو أن الاهتمام المتزايد من طرف الشعراء المعاصرين بالتراث الشعبي بمختلف أنواعه وأشكاله، هو الذي أوحى للكاتب بمثل هذا الاعتقاد.

قد لا نكون مخطئين إن قلنا إن الشيء الذي نمى هذا الاعتقاد سواء عند شوقي أو غيره، هو تلك الدعوات التي كان يدعو إليها بعض أنصار الحداثة وحاملو لواء التجديد في الشعر ـ وعلى رأسهم يوسف الخال ـ حين دعوا إلى ضرورة الانفتاح على الثقافة الشعبية واللغة اليومية بوصفها ثقافة حيّة قادرة على التعبير عن هموم الإنسان المعاصر.

أضف إلى ذلك ما كتبه بعض المنظرين للشعر المعاصر من أنه ((ليس ظاهرة شاذة معزولة تحتكرها طبقة من الناس تترفع على سائر الناس وتنقطع عنهم فتتخذ ما يحلو لها من لغة تامة الاصطناع، تامة الانبتار عن لغة البشر العاديين)) فمما لا شك فيه أن مثل هذه التصريحات هي التي شجعت على تبني هذا الاعتقاد والقول بأن الشعر المعاصر سيحتل مزيداً من مكانة الشعر العامي بتخليه عن لغته واقترابه من لغة الحديث اليومي.

لكننا لا نعتقد أن الشعر الفصيح سيتخلى نهائياً عن مكانته، في يوم ما، للشعر الشعبي، لأن للفصيح أنصاره وتاريخه، كما أن للعامي أنصاره وتاريخه أيضاً، لكن هذا لا يمنع من تأثر أحدهما بالآخر أو العكس، كما حصل في العصور السابقة، والمقصود بالتأثر هنا، عملية التوظيف، أي أن يستخدم أحد الشاعرين عناصر (صورة، فكرة، رمز) من الآخر أو العكس مما يخدم شعره وأفكاره. ويبقى الفرق بينهما يكمن في أيهما كان بارعاً في عملية التوظيف والاستخدام. لأن جودة الشعر وجماله، سواء كان فصيحاً أم شعبياً، من هذه الناحية بالذات، تتوقف على حسن توظيف الآخر توظيفاً فنياً بارعاً.

ومن الأدلة الأخرى عن علاقة الشعر بالموروث الشعبي ما ذكر عن عملية الإبداع الشعري من أساطير وحكايات وقصص عجيبة سواء عند العرب قديماً أو غيرهم من الأمم والحضارات، فالغموض الذي أحاط بهذه العملية، جعل العرب يحيطونها بجملة من التصورات الميتافيزيقية حيث أنزلوا الشاعر منزلة كهنوتية فأخرجوه من دائرة عالم الإنس إلى عالم الجن، فهم ((يزعمون أن كلاب الجن هم الشعراء))، وأن لكل شاعر جن أو شيطان يوحي إليه الشعر ويقوله على لسانه، يقول امرؤ القيس:




  • تخيرني الجن أشعارها فما
    شئت من شعرهن اصطفيت



  • شئت من شعرهن اصطفيت
    شئت من شعرهن اصطفيت



فالجن هي الموحي والمؤثر في عملية الإبداع، وحضور الشاعر هو كحضور الجن باعتبار أن هذا الأخير بمثابة القرين الذي يلازم الشاعر ولا يبارحه، أو قل هو الذات الشاعرة متلبسة بالشاعر. والغريب أن الشعراء أنفسهم تبنّوا هذه الأفكار واعتقدوا أن هناك قوة عجيبة خفية ترافقهم وتعينهم على قول ما يتعذر على غيرهم من سائر الناس، وهي روح تختارهم من بين أترابهم، تعطف عليهم وتلهمهم رائع الكلام في قالب موزون مقفى، وأن هذه الأرواح (الجن) تسكن بواد يسمى (عبقر) ـ أقام عبقر في المجتمع الجاهلي مقام الأولمب في المجتمع اليوناني ـ فجعلوه مصدراً لأجمل الأشعار وأردئها، فنسبوا الجيد منها إلى جني يسمى (الهوبر)، وخصوا الرديء بآخر يسمى (الهوجل)، ووصفوا الشاعر بالكاهن والساحر لأن كلاهما يتلقى الوحي من الجن والشياطين، وكلاهما يمتهن لغة الأسرار والرموز.

بل الشاعر عندهم أقوى تأثيراً وأوسع مجالاً من الكاهن، فإذا كان تأثير هذا الأخير لا يتعدى دائرة المعبد وطقوسه، فإن تأثير الشاعر يشمل القبيلة كلها بل قد يتعداها إلى غيرها فيتسامع به الناس في كل مكان. ومن هنا كان الاحتفال به عند القبائل الجاهلية أقوى وأعظم من الاحتفال بالساحر أو الكاهن. ومهما ذكرنا عن علاقة الشعر بالمأثور الشعبي عموماً، وعلاقة الشاعر بالساحر أو الكاهن، وهي علاقة وطيدة ومتينة تشترك فيها جميع الآداب، كما أوضحنا سابقاً، فإن القصيدة العربية عند الجاهلي كانت شبيهة بتميمة الساحر وطقوس العابد، يصدرها بدوافع روحية وفكرية، قاصداً بها إصلاح الخلل، حماية لحياته وحياة عشيرته.

وعلى الرغم مما ذكره بعض المحدثين المهتمّين بالنص الشعري العربي القديم حول علاقة الشاعر الجاهلي بالجن والتي يقولون فيها بأن ((صورة الجن التي التبست بذات الشاعر الجاهلي، يستدعي أمرها ذكر نوبة الاختلال وعدم الاتزان التي تعتري المبدع في جو من الانفعال الشديد الذي يرنو إلى كوة الاتزان والتطهير، ذلك أن عالم الانفعال يكون شبيهاً بعالم الحلم أو عوالم الجنون))، فإن هذا لا ينفي مثل هذه الاعتقادات وبالخصوص إذا علمنا أن العقلية البدائية تدعو إلى الاعتقاد بأن العالم الذي يحيط بها عبارة عن لغة تستعملها الأرواح والجن في مخاطبة بعض العقول، أضف إلى ذلك أن الثقافة تلك المرحلة كانت تستلزم مثل هذا الاعتقاد، لأنها ثقافة قائمة على التصورات الغيبية والطقوس الشعبية، وإلا كيف نفسر إيمان الشعراء أنفسهم بهذه الأفكار.

فعلاقة الشاعر بالجن، والشعر بالسحر وغيره من الفنون والأشكال القولية الشعبية، علاقة يكشف عنها الذهن القديم بكل ما يحمله من رواسب وأفكار وخيالات ورؤى وتراكمات مثيودينية مختلفة.

لم يكن هذا الاعتقاد مقتصراً على العرب وحدهم، ففي اليونان كان الشعراء يتوسلون لربات الشعر وآلهة الفنون muses ليتلقوا منها الوحي، وكانوا يستهلون قصائدهم بعبارة ((غني غني ربات الشعر)) معترفين بأنهم ليسوا أكثر من وسطاء وأن كلماتهم ليست سوى كلمات هذه الآلهة. وقد ازداد هذا الاعتقاد اتساعاً عندما ساد الظن بأن الشعراء هم أبناء هذه الآلهة.

تذكرنا عبارة (غني غني ربات الشعر) بكثير من مطالع الشعر الشعبي الجزائري التي تبدأ بذكر اسم الله والرسول، كقولهم: ((بسم الله نبدأ هذا العنوان))، ((باسم الله نبدأ هذوا الأشعار... بجاه النبي شفيع المذنبين))، ((بسم الله أبديت كلامي بالتعبير...)). وهي مطالع ضرورية كتلك التي ألفناها في الشعر الجاهلي، لأنها أشبه ما تكون بالطقس الذي لا يستقيم الشعر بدونه.

والغريب أن هذا الاعتقاد ظل سائداً إلى عصرنا الحديث عند بعض الشعراء، فقد اعتقد مالارميه أن الآلهة هي التي توحي لنا بالأبيات الأولى من القصيدة، أما البقية فينبغي أن نعتمد فيها على أنفسنا. وشبيه بهذا التصور ما ذكره شلي من أن الشعر ليس قوة خاضعة لأحكام الإرادة، وإنما لقوة خفية.

ومهما ذكرنا من هذه التصورات، فإن الفضل يعزى إلى الرومانتيكية في إحيائها وترسيخها في أذهان الشعراء والمبدعين بسبب ما اتصفت به من أفكار غامضة وخيالات واسعة وأحلام مجهولة. فقد حاول أنصار هذا المذهب الكشف عن طبيعة عملية الإبداع الفني، فربطوا بين الشعر والأسطورة من جهة، وبين الخيال والأحلام من جهة أخرى، واعتبروا الأسطورة والحلم منشأ الشعر ومهده الذي يترعرع فيه، فالأحلام عندهم كالشعر تنتزعنا من حياة العزلة وتصلنا بالأعماق النفسية وتربطنا بروابط خفية مع مصيرنا الأبدي. وبهذا أعاد هؤلاء الأنصار إلى حقل الشعر والذاكرة، العديد من الأفكار والتصورات القديمة التي سوف ينشأ في أحضانها الشعر المعاصر.

في ظل هذا التصور المتميز بالغموض والإغراق في الذاتية ظهرت القصيدة المعاصرة وهي تشق طريقها إلى أعماق النفس من خلال لغة الرموز والأساطير والأحلام التي وصفت بأنها المنافذ المطلة بالإنسان على عوالم البداية والخلود. فأصبحت للكلمة الشعرية على لسان الشاعر المعاصر مكانة عالية لا تختلف عن المكانة التي كانت لها عند الإنسان (الشاعر) الأول، لا يدري كنهها وتأثيرها إلا أولئك الذين اكتووا بنارها:

ولأنك لا تدري معنى الألفاظ، فأنت تناجزني بالألفاظ

اللفظ حجر

اللفظ منية

أما الرؤيا الشعرية فقد أصبحت هي الأخرى ((تتكون بفعل عملية سحرية غريبة عن قواعد المنطق)) والمألوف، أو كما قال أدونيس ((قفزة خارج المفهومات السائدة))، فهي أقرب إلى منطق الحلم والنبوءة. ونتيجة لذلك وصف الشعر بأنه كالسحر أو الممارسة الميتافيزيقية التي تضرب صوب الخارق والفائق.

كل هذا، يجعلنا نذهب إلى القول إن القصيدة المعاصرة أصبحت تنحدر لحظة تشكلها ونهوضها، من الرحاب ذاتها التي كانت تنحدر منها المعتقدات والأساطير، وأصبحت نظرة الشاعر المعاصر كنظرة الإنسان الأول حينما كان يخاطب الأشياء وكأنها أرواح تسمع وتستجيب لندائه ودعائه، يقول أدونيس:

لو أنني أعرف أن أكلم الأشياء..

وقلت للأشياء والفصول

تواصلي كهذه الأجواء

مدي لي الفرات

خلّيه ماء دافقاً أخضر كالزيتون

يتمنى الشاعر لو أنه يعرف كيف يكلم الأشياء، كما كان يكلمها أسلافه، ليتمكّن من الغوص في أعماقها فيشعر بأنه جزء منها، أو من هذا العالم الغريب الذي أصبح لا يقيم للإِنسان وزناً. إن عجز الشاعر عن تكليم الأشياء والتواصل معها، يفسر عمق الهوة التي تفصلنا عن الكون من جهة، وعن المجتمع والآخرين من جهة ثانية، كما أنه يكشف غربة الشاعر المعاصر ووحدته. وهذا القصور في التواصل مع الأشياء أو العالم بصورة عامة، سببه الفقر الروحي الذي أصاب حضارة القرن العشرين من جراء طغيان المادة وتراجع القيم.

وربما خير مثال نقدمه على هذا الفقر قصيدة (البئر المهجورة) ليوسف الخال التي هي محاولة بحث عن انبعاث روحي يخلص النفس من عمقها ومأساتها، فالأرض صحراء قاحلة بل هي كالجثة الهامدة التي لا حياة فيها، والبشر عليها عطاش أو كالموتى لا يدرون ما يصنعون، والبئر من حولهم تفيض بالمياه، لكن من ذا الذي يلتفت إليها، أو على الأقل يرمي فيها بحجر:

عرفت إبراهيم، جاري العزيز، من زمان.

عرفته بئراً يفيض ماؤها

وسائر البشر

تمرّ لا تشرب منها، لا ولا

ترمي بها، ترمي بها حجر

وتزداد مأساة الشاعر عندما ينظر إلى الطريق فلا يرى إلا الأشباح السوداء:

وفي الطريق ألف شبح وشبح،

وهاهي الوجوه خزف، قماقم

والخاتم اللبيك صدئ،

والبسط الريح استحالت طائراً،

عجلة تدور والزمان واحد،

وشهرزاد ما تزال تسرد الحياة ههنا حكاية.

وشهرزاد جسد،

كالورق الذي يهر، جسد

والسر في الجذور.

وعبثاً نصيح: نحن كالرياح

حرة تجيء من مكانها وحرة تروح.

لنا التراب بيت رحم وكفن،

والموت وحده البقاء

فشهرزاد التي استطاعت - كما تروي حكايات ألف ليلة وليلة - أن تنقذ النساء من بطش شهريار وتخلصهن من الموت المحتوم عليهن، لم تعد قادرة على بعث الحياة من جديد، لأنها لم تستطع إنقاذ البشر من الموت الذي خيّم على كل شيء..

فشهرزاد الروح أو الحياة انتهت ولم يعد لها أثر، ولم يبق منها إلا الجسد الذي صار كالورق الذي يهرّ لكن بدون جدوى. بهذه الطريقة أو الأسلوب دخل الشاعر في تناص عكسي مع حكاية شهرزاد، فجاء توظيفه لها مخالفاً للأصل، وهذا يعني أن الشاعر لم يكن من المقلدين أو الناقلين للتراث كما هو، وإنما راح يغير منه تماشياً مع تجربته وما يتطلبه الموقف منه من تبديل وتغيير.

فالكل يعرف أن شهرزاد في ألف ليلة وليلة كانت رمزاً للحياة والسعادة والحرية والأمن والمستقبل. لكن هل كانت كذلك في المقطع؟ ماذا فعل إذن يوسف الخال بهذا الرمز؟

ذكرنا فيما سبق أن شهرزاد الروح، الفكرة، الموقف، الجذر، قد انتهت ولم يعد لها حضور في هذا الزمن البائس، وبقيت شهرزاد الجسد رمز الشهوة والإثارة الجنسية والفتنة والغواية، فهي لا تستطيع أن تفعل شيئاً، لأن الشاعر جردها من كل الصفات الحيوية التي ذكرت بها في حكايتها الأصلية التي كان بإمكانها أن تكون من خلالها بطلة هذا العصر أو على الأقل من نماذجه المتميزة، لكنه أراد لها أن تكون كذلك ليعبر من خلالها عن الموت الشامل الذي أصاب الأمة ورموزها الخالدة.

لم تكن شهرزاد الشخصية التراثية الوحيدة التي عرفت هذا التحوّل، فهناك العديد من الرموز والشخصيات التي شهدت هذا التغيير نفسه داخل النصوص الشعرية، وبالخصوص تلك التي كتبت بعد هزيمة حزيران 1967 التي حطّمت العزائم وأذهبت كل الآمال، وامتد أثرها إلى رموز الأمة فأصابها الضعف والوهن. فالسندباد المغامر قد توقف عن المرحلة وعنترة بن شداد الفارس العربي المعروف بالشجاعة والبسالة، تحوّل إلى شخص ضعيف مستكين، وخالد بن الوليد (سيف الله المسلول) صار (سيف الله المغمد)، وسيف بن ذي يزن في بادية العراق يحتضر.

أما إبراهيم والبحر (الماء) كما يتضح من هذه القصيدة (البئر المهجورة) فهما رمزان للخلاص والانبعاث. لكن السؤال المطروح، لماذا اختار يوسف الخال إبراهيم رمزاً للانبعاث ولم يختر شهرزاد مثلاً، علماً أن هذه الأخيرة كانت من بين الشخصيات التراثية التي استقطبت أنظار الأدباء والشعراء في تلك الفترة؟

هل أراد هذا الشاعر بالإشارة إلى إبراهيم أن يبحث عن رمز جديد لم يستخدمه الشعراء؟ أم أنه كان تحت تأثير تصور غربي مفاده أن الانبعاث لن يتحقق على يد عربية كشهرزاد؟ أم لأن إبراهيم رمز الدين وأب الأنبياء، وأن الخلاص لا يكون بغير الدين والعودة إلى الله؟ أم لأنه أراد أن يجمع بين الدين ممثلاً في إبراهيم، والتراث الأسطوري ممثلاً في تموز وأدونيس بوصفهما رمزا الموت والانبعاث، بهدف تشويه الحقائق والأفكار؟

يبدو أن كل هذه الاحتمالات واردة، لكن الشيء الذي استطاع يوسف الخال أن يتوصل إليه، بخلاف غيره من الشعراء، هو إِيمانه بأن الخلاص لا يكون بغير العودة إلى الدين (المسيح والله) بكل ما يستلزمه من صبر وتضحيات، لكن البشر يرفضون هذه التضحيات، وفي ظل هذا الرفض يتساءل الشاعر عن مصير هذه الأمة أو البشرية الرعناء:

ترى، يحوّل الغدير سيره كأن

تبرعم الغصون في الخريف أو ينعقد الثمر،

ويطلع النبات في الحجر؟

و(البئر المهجورة) قصيدة أسطورية تتقاطع مشاهدها مع مشاهد (الأرض الخراب) لإليوت ورموزها، ((فإبراهيم أشبه بتموز أو أدونيس، ورمز الماء لا تخفى أهميته في القصيدتين. ومفهوم العقم الروحي في سياق القصيدة ووجوب الانطلاق منه لبعث الأرض والنفس هو صلب موضوع قصيدة إليوت. بالإضافة إلى هذا تم التركيز على مفهوم الخصب ورمزه (الماء) عند كلا الشاعرين))، غير أن يوسف الخال يحمّل هذا الرمز (الماء) أو البحر كما يشير إليه في هذه القصيدة، بعداً حضارياً جديداً، فالبحر في شعره هو طريق الانفتاح على العالم الغربي وحضارته، وهو الهاجس الذي ينبغي ركوبه وخوض غماره لأنه سبيل الخلاص والتحرر من الأفكار القديمة.

إن التخلص من ثقافة الصحراء (رمز الحضارة العربية)، والعودة إلى ثقافة البحر (رمز الحضارة الغربية) هي إحدى الأساسيات الجوهرية التي ينطلق منها يوسف الخال في تصوره لفكرة الانبعاث، ((فالحضارة الغربية هي حضارتنا نحن بقدر ما هي حضارة الفرنسي والألماني والروسي... ونحن لا قيمة ولا مستقبل لنا، في العالم العربي، إن بقينا خارجها ولم نتبنّها من جديد ونتفاعل معها ونفعل فيها. إنها لنا وهي نحن)) ولا سبيل للانبعاث بغيرها. ذلك هو طريق الخلاص إذن الذي خطه الشاعر، وهو طريق انتهى إليه بعد معاناة طويلة وخيبة أمل من انبعاث داخلي يقوم به أفراد الأمة.

/ 62