-صلاح عبد الصبور (البحث عن كنوز الشعر والمعرفة) - اثر التراث الشعبی فی تشکیل القصیدة العربیة المعاصرة نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

اثر التراث الشعبی فی تشکیل القصیدة العربیة المعاصرة - نسخه متنی

کاملی بلحاج

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

-صلاح عبد الصبور (البحث عن كنوز الشعر والمعرفة)

يعد صلاح عبد الصبور من الشعراء الرواد الدين أسهموا في تأصيل هذا التوظيف برؤيا معاصرة تتواشج فيها جملة من العلائق الحكائية التي تنم عن تداخل عدة نصوص بطريقة فنية وسليمة، وهي تؤدي تعدداً دلالياً يتراوح حضوره بين حقلي الشعر والمسرح الشعري. ومن ثم يمكن القول إن توظيف صلاح عبد الصبور لأسطورة السندباد لم يتم عبر صيغ ميكانيكية إسقاطية جاهزة، بقدر ما تم عبر إبداع لغة حكائية معاصرة تتمفصل مع دلالة

السندباد.

ففي قصيدته (رحلة في الليل) من ديوانه الأول (الناس في بلادي)، يتجلى اهتمامه المبكر بهذا الرمز، حيث جعله البؤرة الأساسية التي تحكم جميع خيوط القصيدة سواء من حيث الدلالة أو البناء الفني، فمن حيث الدلالة نجد السندباد هو البديل الموضوعي لصديقة الشاعر وإن جاء في المستوى الثاني من مستويات الخطاب. تبدأ القصيدة بهذا العنوان الفرعي (بحر الحداد) وكلمة (بحر) كما هو معروف في حكاية السندباد، من السمات الجوهرية الدالية عليه لذا قرن الراوي اسمه بالبحر فقال (السندباد البحري)، فالسندباد والبحر تيمتان متلازمتان لا يمكن الفصل بينهما، إن لم نقل أن البحر (الماء) هو عنصر التزامن الذي يمكن أن نقرأ هذه الأسطورة على أساسه، لأنه السياق المؤدي إلى تشاكل عناصرها وتكوين بنيتها الموحدة، فالبحر هو المجال الذي كان سندباد يصنع من خلاله مغامراته ويحقق رغباته وأحلامه.

إذا كان بحر السندباد مصدراً للغنى والجواهر والكنوز، فإن بحر صلاح عبد الصبور، كما يوحي بذلك العنوان، عكس ذلك تماماً، فهو بحر الحداد والعدم والظلمة والضياع، مات فيه الرخ، سبيل النجاة والخلاص وتقطعت فيه السبل.

بهذه المفارقة، ومن داخل أسطورة السندباد نفسها يبدأ صلاح عبد الصبور ينسج خيوط أسطورة جديدة منسجمة مع تجربته وآفاق تطلعاته إلى غد تولد فيه نفسه من جديد.

تتشكل القصيدة من ستة مقاطع تفصل بينها عناوين فرعية، لكنها تصب جميعاً في منبع واحد لتصنع دفق القصيدة ومشهدها العام، ففي المقطع الرابع تحت عنوان (السندباد) يقول صلاح عبد الصبور:

في آخر المساء يمتلي الوساد بالورق

كوجه فأر ميت طلاسم الخطوط

وينضح الجبين بالعرق

ويلتوي الدخان أخطبوط

في آخر المساء عاد السندباد

ليرسي السفين

وفي الصباح يعقد الندمان مجلس الندم

ليسمعوا حكاية الضياع في بحر العدم

السندباد:

(لا تحك للرفيق عن مخاطر الطريق)

(إن قلت للصاحي انتشيت قال: كيف؟)

(السندباد كالإعصار إن يهدأ يمت)

الندامى:

هذا محال سندباد أن نجوب في البلاد

إنا هنا نضاجع النساء

ونغرس الكروم

ونعصر النبيذ للشتاء

ونقرأ (الكتاب) في الصباح والمساء

وحينما تعود نعدو نحو مجلس الندم

تحكى لنا حكاية الضياع في بحر العدم

سندباد هذا المقطع الشعري غير سندباد الأسطورة أو ألف ليلة وليلة، لأنه لم يعد ذاك البطل المغامر الذي تحركه الأشواق إلى ركوب البحر وتخطي الصعاب، فهو هنا شخصية عادية تروى للندامى حكاية السندباد البحري ومغامراته لعلها تحرك فيهم رغبة التمرد والانعتاق من القيود. لكن هيهات أن يخرج هؤلاء ويجوبوا البلاد مثلما فعل السندباد، إنهم هنا يضاجعون النساء ويعصرون النبيذ ويستمتعون بالحكايات. لم يعد السندباد قادراً على بعثهم من جديد أو حتى تحريك عواطفهم وانفعالاتهم، وفي ذلك إشارة من الشاعر إلى الواقع المهزوم الذي آثر الاستقرار وألف الثبات، واكتفى أفراده بالسماع عن الأبطال والشخصيات دون محاكاتهم أو التأثر بهم.

وإذا كانت هذه هي حال المجتمع العربي المعاصر الرافض للتغيير والانبعاث فإن حال الشاعر غير ذلك لأنه ينشد الميلاد والتجدد اللذين كان يطلبهما السندباد في كل سفرة من سفراته:

في الفجر يا صديقتي تولد نفسي من جديد

كل صباح أحتفي بعيدها السعيد

ما زلت حياً! فرحتي! ما زلت والكلام والسباب

والسعال

وشاطئ البحار ما يزال يقذف الأصداف واللآل

والسحب ما تزال

تسح، والمخاض يلجئ النساء للوساد

ولو عدنا مرة ثانية إلى قصيدة (رحلة في الليل) وتأملنا قليلاً مقطعها الرابع (السندباد) لرأينا أنها تتكون من ثلاث حركات من حيث الأسلوب المعتمد في توظيف هذا الرمز أو الشخصية، ففي الحركة الأولى تحدث عنها بضمير الغائب، وفي الثانية بضمير المتكلم، وفي الثالثة بضمير المخاطب وفي "الأحوال الثلاثة كان السندباد موجوداً، أي أن الشاعر خلق الشخصية وحملها تجربته المعاصرة في الحركة الأولى، وحين استوت على سوقها تلبس بها كقناع في الحركة الثانية فأصبح هو هي، وبعد أن تقنع بها حاول إغراء الجماعة أن تصنع صنيعه فلم تستجب لدعواه" . ويمكن إدراج هذا الأسلوب ضمن أساليب (الالتفات) المعروفة في البلاغة العربية القديمة بشيء من التوسع.

إن اهتمام صلاح الصبور بأسطورة السندباد وغيرها من كنوز التراث الشعبي المحلي والعالمي في هذه المرحلة المبكرة من إنتاجه الشعري دليل واضح على تقييمه لهذا التراث وما يحمله من قيم جمالية ومعاني سامية بإمكانها إغناء القصيدة وتفجير طاقات المبدع وعبقريته الفنية.

لقد وجد صلاح عبد الصبور في أسطورة السندباد التي اتخذ منها قناعاً ومجالاً رحباً لبسط أفكاره وتأملاته الفلسفية على مدى تطور مراحل حياته الشعرية التي يمكن تقسيمها إلى ثلاث مراحل؛ كان السندباد في كل واحدة منها يظهر بوجه معين وصورة مخالفة لما ألفناه من قبل.

تبدأ المرحلة الأولى بديوانه الأول (الناس في بلادي): يتجلى السندباد في رحلة لاهثة وراء كنوز المعرفة، ورغبة جامحة في امتلاك ينبوع القول وناصية العطاء الشعري، إنها رحلة الشاعر نفسه في سبيل الإبداع والبحث عن الكلمات والحروف، فهو يرحل كما رحل السندباد رغبة في الكشف عن عوالم شعرية أخرى، تمكنه من الانفلات من قبضة التقليد وإعادة ما أبدعه القدماء، صانعاً سفينته (أوراقه وخطاطاته) ناشراً قلاعه (خياله)، راحلاً عبر المجهول (عوالم الفن والفكر)، باحثاً عن الثروة والجواهر (الحقيقية).

صنعت مركباً من الدخان والمداد والورق

ربانها أمهر من قاد سفينا في خضم

وفوق قمة السفين يخفق العلم

وجه حبيبي خيمة من نور

وجه حبيبي بيرقي المنشور

جبت الليالي باحثاً في جوفها عن لؤلؤه

وعدت في الجراب بضعة من المحار

وكومة من الحصى، وقبضة من الجمار

وما وجدت اللؤلؤه

سيدتي، إليك قلبي، واغفري لي، أبيض كاللؤلؤة

وطيب كاللؤلؤة

ولامع كاللؤلؤة

هدية الفقير

وقد ترينه يزين عشك الصغير

نلاحظ في هذا المقطع مزجاً واضحاً وتداخلاً نصياً بارزاً بين عناصر الرحلة عند كل من الشاعر والسندباد، يكشف عنها السطر الأول حين يذكر الشاعر الدخان والمداد والورق، بجانب السفين والربان. ولعل أول ملاحظة تستوقف قارئ هذا المقطع هو عزوف صلاح عبد الصبور عن ذكر شخصية السندباد صراحة، واكتفاؤه بالتلميح، وهو ما نجده أيضاً في قصيدته (أناشيد غرام)، وتعد هذه الطريقة من الأساليب الفنية التي اعتمد عليها الشاعر في توظيف الشخصيات التراثية، فهو لا يصرح بالأساطير والشخصيات والأحداث وإنما يومئ إليها خفية مستعملاً الألفاظ والكلمات التي ترمز إليها، فكلمة (مركب، سفين، خضم، ليالي، لؤلؤ، محار..) تحمل من الدلالة ما يكفي للكشف عن هذه الشخصية الأسطورية المخبوءة.

من الملامح الأسطورية الأخرى في هذا المقطع (التكرار) و(العطف) اللذان يعدان من أبرز عناصر الصياغة في التراث الشعبي عموماً. فعبارة (وجه حبيبتي) تكررت مرتين ولفظة (اللؤلؤة) خمس مرات، إلى جانب عطف الجمل إلى بعضها البعض، مما يعمق الإحساس لدى القارئ بالعودة إلى ينابيع اللغة في نسجها الأسطوري.

إذا كان السندباد قد عاد من رحلته محملاً بالجواهر واللؤلؤ، فإن الشاعر قد ظل غارقاً في لياليه يبحث عن الكلمات يقدمها لؤلؤا لحبيبته معتذراً لها عن ذلك لأنه لا يملك إلا إياها، إنها هدية الشعراء لمن يحبون ويعشقون.

قصارى القول إن رحلة صلاح عبد الصبور هي رمز لرحلة الشاعر في سبيل المعرفة والإبداع.. رحلة البحث عن الحرف المضيء والكلمة النابضة بالحياة، الانتقال من عوالم البحار إلى عوالم الشعر والإبداع.. رحلة يقوم بها الشاعر وهو على يقين بأنها ضرورة حياتية لا يمكن الاستغناء عنها:

السندباد كالإعصار إن يهدأ يمت

ذلك هو قدر الشاعر العظيم، وتلك هي طبيعته الجامحة في البحث المستمر عن الحرف، والرحلة الدائمة من أجل اختراق الواقع وتجاوزه وهدم اللحظة الراكدة.

أما في المرحلة الثانية فإننا نصادف وجهاً آخر للسندباد غير الوجه الذي عرفناه به في المرحلة الأولى من حياة الشاعر. إنه السندباد المهزوم الضعيف الذي تبددت مغامراته، وانتهت طموحاته وآماله واستكان في القاع باكياً.

ملاحنا هوى إلى قاع السفين، واستكان

وجاش بالبكا بلا دمع.. بلا لسان

ملاحنا مات قبيل الموت، حين ودع الأصحاب

... والأحباب والزمان والمكان

هكذا عاش السندباد في صورته الثانية عبر قصائد صلاح عبد الصبور رمزاً للإنسان المقهور، المهزوم حضارياً ومصيرياً، كارهاً خائفاً يرتجف رعباً، لأنه يحيا -كما يذكر الشاعر في القصيدة نفسها -في زمن الحق الضائع والسأم الجاثم:

هذا زمان السأم

نفخ الأراجيل سأم

.....

هذا زمن الحق الضائع

لا يعرف فيه مقتول من قاتله ومتى قتله

ورؤوس الحيوانات على جثث الناس

فتحسس رأسك

فتحسس رأسك

يعلق أنس داود على هذا الانعطاف في حياة السندباد (الإنسان المعاصر) قائلاً: "ولعل الهرب من محنة الاستشهاد، هي المأساة الحقيقية لسندباد عصرنا، لكل مفكر وفنان، لأنه يريد أن يعيش في سلام شخصي" دون أن يريق قطرة من دم" فلا تكون النتيجة سوى أن يموت دون أن يصارع التيار" . وإذا كانت هذه هي محنة الإنسان المعاصر الرافض للاستشهاد، كما يصورها صلاح عبد الصبور في قصيدته (الظل والصليب) في ديوانه الثاني، فلا غرابة في أن تزول فكرة البطولة من ذهنه وتنتهي المغامرة ويموت السندباد وتتلاشى ملامحه على غير ما عهدنا في ديوانه الأول.

يا شيخنا الملاح..

..قلبك الجريء كان ثباتاً فما لـه استطير؟

أشار بالأصابع الملوية الأعناق نحو المشرق البعيد..

ثم قال:

-هذي جبال الملح والقصدير

فكل مركب تجيئها تدور

تحطمها الصخور

..............

ملاح هذا العصر سيد البحار

لأنه يعيش دون أن يريق نقطة من دم

لأنه يموت قبل أن يصارع التيار

إن روح الهزيمة والانكسار اللتين ركز عليهما الشاعر ليست من سمات سندباد ألف ليلة وليلة، وإنما هي من سمات الإنسان العربي المعاصر الممزق بين الحضارات، فاقداً بطولته ونخوته وطموحه.

هذه الصورة ذاتها نجدها عند عبد الوهاب البياتي مع اختلاف جوهري مؤداه أن موت السندباد عند صلاح عبد الصبور وانهزامه سببه ضياع الحق والسأم الذي أصاب إنسان هذا العصر من جراء هموم الحياة ومشاكلها. في حين نجد أن خيبة أمل سندباد البياتي وانهزامه -ويندرج ضمن هذا التصور كافة الشخصيات الأسطورية كبروميثوس وسيزيف -يعودان إلى المراحل الأولى من حياة الإنسان حين ارتكابه أول خطيئة، وممارسة العقاب عليه كنتيجة لتمرده عليها وعدم الاستسلام لأوامرها، ومن ثم فلا وجود لشيء اسمه البطولة أو القيادة عند البياتي، وإنما هناك عقاب مصيري محتوم لا مفر منه إلا بالرجوع إلى الآلهة والدخول معها في صلح دائم.

يأتي ديوان (الإبحار في الذاكرة) أو الانكفاء على الذات ليرسم نقطة تحول كبير في مسار حياته الفكرية والأدبية، أدرك من خلا لـه أن الرحلة عبر العالم الخارجي طريقها مسدود ونفقها مظلم لا ينتهي إلى شيء سوى الضياع والتيه.

وأن التجربة تحتم عليه أن يبدأ الرحلة من جديد عبر عالمه الداخلي ليسبر أغوار ذاته ويعرف نفسه بنفسه، تلك المقولة التي نطق بها سقراط منذ آلاف السنين فجعلها خلاصة فلسفته ونهاية مقصده، واتخذها المتصوفة مسلكاً لبلوغ أعلى مراتب السالكين ومدارج العارفين.

الواقع أن صلاح عبد الصبور قد اهتدى إلى هذه التجربة أو المرحلة بعد أن مر بتجارب عدة أكسبته معرفة واسعة بأمور الأنظمة السياسية والاجتماعية التي لم تشبع رغبته في التطلع إلى عالم الروح وعالم الإنسان كإنسان لـه مركز ووجود في هذه الحياة "لقد فتشت عن معبود آخر غير المجتمع، فاهتديت إلى الإنسان، وقادتني فكرة الإنسان بشمولها الزمني والمكاني إلى التفكير من جديد في الدين" وبعد بحث شاق وعناء طويل تم الانتقال من الخارج إلى الداخل.. من المجتمع إلى الإنسان.. ومن الإنسان إلى الله.

ومن نتاج هذا الانتقال تلك الصورة التي قدمها صلاح عبد الصبور عن بطله الأسطوري السندباد وهو يتحول عن الرحلة في الخارج إلى الرحلة في الداخل باحثاً عن الأمن والاستقرار اللذين طالما بحث عنهما في أعماق البحار وقمم الجبال. وتأتي قصيدة (الإبحار في الذاكرة) لترسم ملامح هذا التحول المفاجئ في حياة السندباد وصلاح عبد الصبور على حد السواء .

أول شيء يمكن ملاحظته على هذه القصيدة هو عدم الإشارة إلى السندباد بشكل مباشر وصريح وهذه من تقنيات صلاح عبد الصبور في توظيف التراث الشعبي كما سبق وأن أشرنا، والاكتفاء بالإشارة إلى الرحلة والبحر والملاحين والعقبان وبعض القرابين، مستبعداً سيميوطيقات أخرى ليست في رأيه مهمة أو ملهمة، وكأن صلاحاً يريد أن يستحضر السندباد الرمز ويغيب السندباد الأسطورة والمقولة، وهذه من التقنيات الفنية التي انتهى جيمس جويس في روايته الشهيرة (عوليس) واستفاد منه فيما بعد إليوت في (لأرض الخراب).

الإبحار في الذاكرة شكل من أشكال الرفض للواقع ومحاولة للانسحاب منه، ذلك أن الذاكرة عالم يختلف عن عالم الواقع، وإن كان متشكلاً من عناصره ومواده، والرجوع إليه قد يوفر شيئاً من الإحساس بالاستقرار والخلاص من عالم يموج بالمفاسد والتناقضات.

أتأهب للميعاد -الرحلة -في آخر كل مساء

أتقرى أورادي، أتزيا شاراتي

في أهداب الغيم، أنشر أشرعتي

أتلقى في صفحتها نذر الريح، نبوءات الأنباء

البحارة يصطخبون

الملاحون.. الفئران.. التذكارات.. المحبوسون

في أوردة المركب يضطربون

وأخوض رماد الآفاق

إلى جزر المعلوم المجهول الدكناء

يتكشف تحتي مرج الموج، وتمضى بي الريح رخاء

هذا المشهد المشحون بالحركة العارمة التي يمثلها الملاحون بمراكبهم والأمواج المصطخبة، لا يتم خارج الذات، بل في داخلها، أو لنقل إنها صورة من صور صراع النفس مع الخارج وهي تعمل جاهدة لتخليص نفسها من قبضته.. إنه التأهب للميعاد والاستعداد للرحلة في أعماق النفس والذكريات حيث المعلوم والمجهول.. إنه الخلاص بالعودة إلى الذات والإبحار في أغوارها وأعماقها، هذا الإبحار الذي أوجد حالة من الاستقرار عبر عنها السطر الأخير (وتمضى الريح رخاء)، وقريب من هذا ما جاء في قصيدته تجريدات:

حال قد كنت رقيت إليها أمس

لا تأتيني اليوم

هي حال أعطتني نعمى النوم

ويقين الصحو

إن السفر في أعماق الذات أشبه ما يكون بحال المتصوف، فهو كالبرق يلمع ويختفي، ولا ندري متى يأتي ومتى يذهب. وصلاح عبد الصبور يدرك أن هذه حالات نفسية غامضة لا يمكن القبض عليها، فمجيئها مشروط بظروف معينة (لا تأتي اليوم) لكن عند قدومها فهي تبعده عن موطن المأساة وتعطيه كما قال (نعمى النوم) و(يقين الصحو) وهما حالتان تنمان عن الشعور بالاستقرار والأمن، ولو أنه شعور آني، لكنه يوفر بعض الراحة، ويعطي الذات قوة المجاهدة والارتقاء نحو اليقين.

هكذا استطاع صلاح عبد الصبور أن يقدم في قصيدته (الإبحار في الذاكرة) ومن قبلها قصيدة (الخروج) قناعه الأسطوري السندباد وهو يتحول عن الرحلة في الخارج إلى الرحلة في الداخل؛ وقد تزود بالمعارف الصوفية ما يؤهله للفوز بعالمه المنشود (المدينة المنيرة) الذي طالما كان يحلم به وهو طفل صغير. وإن كان في قرارة نفسه يساوره في رحيله بعض الشك في وجود هذا العالم المنشود أو المرفأ الآمن:

هل أنت وهم واهم تقطعت به السبل

أم أنت حق؟

أم أنت حق؟

والسندباد من هذه الناحية هو الوجه الآخر لصورة الحلاج وبشر الحافي اللذين كانا يساورهما بعض الشك في حياتهما، بحثاً عن الحقيقة واليقين، وقد لا نخطئ إن قلنا أن صلاح عبد الصبور أراد من خلال توظيفه لهذه الشخصيات، كأقنعة بارزة في شعره، أن يعبر، أولاً، عن الفلسفة في الحياة ورؤيته للأشياء، وثانياً، عن شخصيته التي تشبه في بعض وجوهها شخصية هؤلاء وبالخصوص فيما يتعلق بالبحث الدائب عن الحقيقة. بل إن حياة الشاعر نفسها تشير إلى أنه عاش ممزقاً ومصدوماً وجودياً وحضارياً ، أضف إلى ذلك أن التجربة الروحية (الصوفية) التي انتهى إليها في أواخر حياته، كان لديه شبيهة بالرحلة أو السفر المضني المليء بالمفاجآت والمخاوف.

والمتتبع لفكرة الرحلة عند هذا الشاعر يلاحظ أنها من أساسيات تكوين تجربته وفلسفته في الحياة، فهي ترتبط حيناً بتجربته الشعرية وحيناً تتجاوزها إلى معنى أشمل هو التجربة الروحية، أو ترتبط بأبعاد وجودية ومصيرية، وهي في كل الأحوال تنم عن نفس تواقة، منجذبة نحو آفاق مجهولة.

الكتابة الشعرية عند صلاح عبد الصبور مغامرة ورحلة مضنية في طريق قلق، محفوف بالمزالق والمخاطر لأنه أشبه بطريق الصوفي الباحث عن الجوهر والطهر في ركام المفاسد والشرور.

يقول صلاح عبد الصبور في هذا المعنى "وقد ظل معنى الرحلة ينمو في نفسي، منذ ذلك الحين، ويكتسب أبعاداً جديدة من المفارقة والنصب، والولاء فيها للشعر، والرحلة تبدأ بعد التأهب الساكن لزورة الشعر التي لا تجيء، فيخرج إليه الشاعر طالباً عطاءه، بعد أن ينزع عن نفسه كل شارات الحياة متجرداً كتجرد الحاج إلى قدس الأقداس" . هكذا تبدو رحلة الشاعر العظيم في نظره، فهي لا تتم إلا بعد جملة من الشروط منها: التأهب والخروج والتجرد وترك شارات الحياة.

وهي من هذه الناحية تشبه رحلة المتصوف التي لا تتم هي الأخرى إلا بعد شوط واجتياز العقبات. .

وما دام الإنسان يعيش في انكسار وقهر دائمين:

ولننكسر في كل يوم مرتين

فمرة حين نقابل الضياء

ومرة حين تذوب الشمس في الغروب

فلا خلاص لـه من هذا القهر والانكسار إلا بالارتحال والمغامرة وتأهب للسفر الطويل.

-خليل حاوي (البحث عن الذات الحضارية):

كان خليل حاوي من أشد الشعراء توظيفاً لشخصية السندباد، وذلك لما وجد فيها من قيم ورموز صالحة للتعبير عن شتى أبعاد تجربته الروحية والشعرية وبالخصوص في تلك الفترة الحاسمة من فترات تطوره الفكري، وهي فترة البحث عن الذات عبر مجموعة من المغامرات الوجودية. ولعلنا لا نجانب الصواب إن قلنا إن مغامرة الشاعر الفنية -عبر دواوينه الثلاثة الأولى -كانت تحمل طابع مغامرات السندباد، وتتقمص شخصيته، وأن شعره كان رحلة متواصلة من أجل المعرفة والكشف عن ماهية الوجود من جهة، وبحثاً دائماً عن مصادر الانبعاث والتحرر من قبضة التخلف والانحطاط من جهة ثانية.

إن ما كتبه الشاعر عن هذه الشخصية التي رافقته على امتداد مرحلة كاملة من مراحل تطوره الإبداعي، وبسطت ظلالها على رؤياه الشعرية، يعد من أنجح النماذج وأكثرها نضجاً واكتمالاً من الوجهة الفنية، وذلك راجع في رأينا لعدة أسباب نذكر منها:

1- نجاح الشاعر في تحقيق الامتزاج في عملية البناء والتعبير بين ما هو تراثي وما هو معاصر.

2- تطوير الشاعر لشخصية السندباد من داخل قصائده الشعرية كما تمليه التجربة، فالسندباد عنده ليس شخصية جاهزة مسبقاً كما رسمتها الأسطورة، وإنما هو شخصية نامية، صنعت رمزيتها وملامحها تجربة الشاعر ومعاناته، ولذا نجد سندباد القصيدة غير سندباد الأسطورة وإن اشترك معه في بعض السمات والملامح التي تضفي عليه طابع الأصالة.

إذا كان خليل حاوي قد كشف بوضوح في ديوانه الثاني (الناي والريح) في قصيدته (وجوه السندباد) و(السندباد في رحلته الثامنة) عن التقائه المباشر بالسندباد، فإننا نرى هذه الشخصية تخاله منذ ديوانه الأول (نهر الرماد) في قصيدة (البحار والدرويش) على الرغم من أن ملامحها لم تكن قد تحددت بعد. وكأن الشاعر كان في مرحلة البحث عن القناع أو الرمز الذي يستطيع أن يحمل عنه عبء التجربة ويجسد أبعاد الرحلة ومعاناتها.

على الرغم من عدم تصريح خليل حاوي بشخصية السندباد في هذه القصيدة، كما أسلفنا، إلا أننا نجد ما يرمز إليها، فالبحار يحمل بعض ملامح هذه الشخصية كما أن البحر والغول والمغامرة والشعور الدائم بعدم الاستقرار، كلها تيمات سندبادية ستزداد تجلياً ووضوحاً في ديوانه الثاني.

تأتي قصيدة (السندباد في رحلته الثامنة) من ديوانه الثاني (الناي والريح) لترسم هذا الرحلة من بدايتها إلى نهايتها، وتختصر المسافة وكأنها القصيدة الأم أو المعلقة التي اتضحت عندها الرؤيا واكتملت التجربة وازدادت نضجاً وتبلوراً، وازدادت معها ملامح ذلك البحار المجهول الهوية تحديداً وتبلوراً، فإذا به (السندباد البحري) بكل ما يحمله هذا المغامر في التراث الشعبي من ملامح وسمات. وبهذا التدرج في البحث عن الوسائل الفنية استطاع الشاعر أن يعثر في "هذه الشخصية على الصوت التراثي الذي سينهض بعبء التعبير عن كل ما حاولت شخصية البحار أن تعبر عنه في نهر الرماد بعد أن اكتسب أبعاداً وأعماقاً فكرية ووجودية جديدة"

نظمت هذه القصيدة ما بين سنة 1956 و1958 وهي المرحلة التي بدأت فيها بوادر التحرر من القيود الأجنبية تعم مختلف الدولة العربية التي شعرت بضرورة النهوض والبناء، كما أنها مرحلة العودة إلى الماضي لاسترجاعه وتثمينه والاحتماء به، إنها باختصار شديد مرحلة إعادة النظر في التاريخ والحضارة ومحاولة النهوض بهما وتخليصهما مما أصابهما من تشويه وفساد.

يقدم الشاعر لقصيدته هذه باستهلال يشير فيه إلى الأسطورة المحورية الموظفة فيها وهي أسطورة السندباد فيقول: "كان في نيته أن لا ينزعج عن مجلسه في بغداد بعد رحلته السابعة، غير أنه سمع ذات يوم عن بحارة غامروا في دنيا لم يعرفها من قبل، فكان أن عصف به الحنين إلى الإبحار مرة ثامنة. ومما يحكى عن السندباد في رحلاته هذه أنه راح يبحر في دنيا ذاته، فكان يقع هنا وهنا على أكداس من الأمتعة العتيقة والمفاهيم الرثة، رمى بها جميعاً في البحر ولم يأسف على خسارة، تعرى حتى بلغ بالعربي إلى جوهر فطرته، ثم عاد يحمل إلينا كنزاً لا شبيه لـه بين الكنوز التي اقتنصها في رحلاته السالفة. والقصيدة رصيد لما عاناه عبر الزمن في نهوضه من دهاليز ذاته إلى أن عاين إشراقة الانبعاث وتم لـه اليقين" .

في هذا المحور تتحرك القصيدة ويتحرك معها السندباد لتمتد عبر مساحة شاسعة موزعة على عشر مقاطع، كل منها يرتبط بسابقة ويؤدي إلى لاحقه.

تنبعث القصيدة من شعور مزدوج، شعور بالحيرة والضياع في دار يتضح من أوصافها أنها تعج بالفسق والفجور، وشعور بالرغبة في التطهر والانبعاث والتخلص من الفساد والشر. ولعل أول ما يلاحظ في هذا المجال هو انقسام القصيدة إلى محورية رئيسيين مختلفين في الاتجاه: المحور الأول تمثله دار السندباد القديمة، والثاني تمثله داره الجديدة.

أما الدار القديمة -كما يتضح من أوصافها -فهي تحوي من السموم والشرور ما يكفي لهجرها والابتعاد عنها:

وكان في الدار رواق

رصعت جدرانه الرسوم

موسى يرى

إزميل نار صاعق الشرر

يحفر في الصخر

وصايا ربه العشر:

الزفت والكبريت والملح على سدوم

هذا على الجدار

على جدار آخر إطار:

وكاهن في هيكل البعل

يربي أفعواناً فاجراً وبوم

يفتض سر الخصب في العذارى

يهلل السكارى

وتخصب الأرحام والكروم

تفوّر الخمرة في الجرار

على جدار آخر إطار

هذا المعري،

خلف عينيه،

وفي دهليزه السحيق

دنياه كيد امرأة لم تغتسل

من دمها، يشتم ساقيها وما يطيق

شطي خليج الدنس المطلي بالرحيق

تكويرة النهدين من رغوته

وسوسن الجباة،

المجرم العتيق

والثمر المر الذي اشتهاه

من هذه الرسوم

يرسخ سيل

مثقل بالغاز والسموم

يتضح من هذه أن الدار كانت مليئة بأنواع الخطايا والفجور؛ فالوصايا العشر تنتهك وتخرق حدودها؛ وسدوم تغرق في شتى أنواع الموبقات، يغضب عليها الرب ويمطرها زفتاً وكبريتاً وملحاً. أما على الجدار الثاني فهناك صورة لكاهن في هيكل البعل يربي أفعواناً فاجراً وبوماً؛ ويرتكب المعاصي ويفتك سر الخصب في العذارى تحت ستار الورع والتقى. أما الجدار الثالث فنرى فيه المعرى الذي حقد على المرأة بوصفها بؤرة الشرور والآثام؛ فنادى بقطع النسل البشري. تلك هي مواصفات دار السندباد القديمة، وهي دار تدل على الفساد والشر كما ترسمه صور جدرانها التي علقت على رواقها.

في هذه الدار قضى السندباد أيام طفولته يرضع من تلك السموم ويشرب من الآثام والشرور حتى سرت في عروقه وانطبعت في صدره، وأصبح مدمناً عليها؛ منغمساً في وحولها ورذائلها، متفنناً في أساليب الخداع والمكر والنفاق:

بلوت ذاك الرواق

طفلاً جرت في دمه الغازات والسموم

وانطبعت في صدره الرسوم

وكنت فيه والصحاب العتاق

نرفه اللؤم، نحلي طعمه بالنفاق

بجرعة من (عسل الخليفة)

(وقهوة البشير)

أغلف الشفاه بالحرير

بطانة الخناجر الرهيفة

لحلوتي الحية الحرير

وفي المقطع الثالث يستفيق السندباد من غفوته فنراه يشد أزره، ويصمم على مغادرة رفاق السوء والتخلص من شرهم، فيلجأ إلى داره ينظفها ويطهرها من صدى أشباحهم ويغوص في أعماق ذاته ليزيل عنها فجورها لعله يرقى إلى مصاف الأنبياء والمتطهرين.

سلخت ذاك الرواق

خليته مأوى عتيقاً للصحاب العتاق

طهرت داري من صدى أشباحهم

في الليل والنهار

من غل نفسي، خنجري،

ليني، ولين الحية الرشيقة؛

عشت على انتظار

لعله إن مر أغويه،

فما مر

وما أرسل صوبي رعده؛ بروقه

لكن على الرغم من كل هذا، فقد ظلت الدار مختنقة بالصمت والغبار كأنها صحراء كلس مالح بوار، لأن ما كان ينتظره السندباد لم يأت بعد؛ والنبوة مطلب عسير لا يتحقق بمجرد تطهير الدار، وإن كان خطوة لا بد منها، كما أن العثور على البديل أمر في غاية الصعوبة في زمن كثر فيه الشر والفساد وفقد فيه الإنسان إنسانيته ومكانته، وأصبح الانبعاث أمراً يتطلب التضحيات الجسام. رفع السندباد يديه إلى السماء يشكو الضيق ويطلب صحو الصبح والإمطار، لكن هيهات، لقد عادت الدار لما كانت عليه من قبل واحتلت الأوساخ ساحتها:

طلبت صحو الصبح والإمطار، ربي،

فلماذا اعتكرت داري

لما اختنقت بالصمت والغبار

صحراء كلس مالح بوار.

................

وكأن في داري التقت

وانسكبت أفنية الأوساخ في المدينة،

تفور في الليل والنهار

يعود طعم الكلس البوار

لم يستسلم السندباد؛ لأن بواعث التغيير والتجديد كانت تدفعه إلى الأمام وتلح عليه. وأيقن أن البعث الحقيقي يقتضي الهدم الكلي للدار. فراح يقوض السقف ويحطم الجدران ويرمي بها للموج الأسود والرياح:

وذات ليل أرغت العتمة

واجترت ضلوع السقف والجدار

كيف انطوى السقف وانطوى الجدار

كالخرقة المبتلة العتيقة

وكالشراع المرتمي

على بحار العتمة السحيقة

حف الرياح السود يحفيه

وموج أسود يعلكه

يرميه للرياح

يدخل السندباد في بداية المقطع الرابع في حالة من الغيبوبة المفاجئة، وفيما يشبه المنام يرى أن داره قد تغير حالها من صحراء كلس مالح يوار إلى جنة تموج بالثلج والزهر والثمار:

صحراء كلس مالح؛ بوار؛

تمرج بالثلج وبالزهر وبالثمار

داري التي تحطمت

تنهض من أنقاضها

تختلج الأخشاب

تلتم تحت قبة خضراء في الربيع

لم تتحقق هذه الرؤيا بعد في عالم الواقع؛ إنها مجرد حلم من أحلام السندباد التي كانت تراوده أثناء معاناته ورغبته في التطهير، فالدار ما زالت على ما كانت عليه، معتمة المسالك، تعز على الترميم؛ والسندباد الآن في حاجة إلى أن يسلخ عن نفسه ذلك الزيف الذي ورثه وتشرب سمومه وهو طفل صغير، فهو مصمم على تحرير نفسه وتنظيف داره من جديد:

أفرغت داري مرة ثانية

أحيا على جمر طري طيب وجوع

كأن أعضائي طيور

عبرت بحار

وحدي على انتظار

ويأتي المقطع الخامس ليكشف مقاماً آخر من مقامات الرحلة، ويتحقق بعض حلم السندباد؛ وإذا بصوت امرأة طاهرة تناديه وتقبل عليه بخطوات تزرع الاخضرار والطمأنينة:

في ساحة المدينة

كانت خطاها

زورقاً يجيء بالهزيج

من مرح الأمواج في الخليج

كانت خطاها تكسر الشمس

على البلور، تسقيه الظلال

الخضر والسكينة

لم يرها غيري ترى

في ساحة المدينة؟

لم ترها عين من العيون

تعم الفرحة نفس السندباد، ينسى معها عذاب السنين العجاف، ويطير قائلاً:

ألعمر لن يقول

يا ليت من سنين

ملء دمي وساعدي

أطيب ما تزهو به الفصول

هذه المرأة لا تشبه النساء في شيء؛ ولا حواء التي أغرت آدم بأكل التفاحة؛ لأنها شقت من ضلوع السندباد؛ فهي نفسه وروحه في براءتها وطهرها:

كأنها في الصبح

شقت من ضلوعي

نبتت من زنبق البحار

ما عكر الشلال ضحكتها

والخمر في حلمتها

رعب من الخطيئة

وما درت كيف تروغ الحية

الملساء في الأقبية الوطيئة

إن حنين السندباد إلى هذه المرأة؛ إنما هو حنين الكل إلى جزئه والشيء إلى نفسه؛ كما أن حنين المرأة إليه؛ هو حنين الشيء إلى وطنه. وهذا الانجذاب أو النوستالجيا المتناظرة هي أول خطوة يخطوها السندباد في رحلته. ولما كانت الأنثى هنا تجسيداً للنفس؛ ومعرفة النفس هي معراج الإنسان إلى الحقيقة؛ لزم أن تكون معرفة المرأة، من خلال عاطفة الحب المتوهج، سبيل الولادة والانبعاث. لكن هل استطاعت هذه المرأة أن تحقق الانبعاث حقاً؟ وهل غيرت من حياة السندباد؛ أم أنها كانت مقاماً يشبه مقامات الصوفية. اجتيازه ضرورة للصعود إلى مقام آخر أعلى وأرقى درجة؟

يبدو أن الحلم لم يتحقق بعد؛ وأن هذه المرأة ليست هي طريق الخلاص الذي يبحث عنه؛ لأن القضية تخص أمة وحضارة بكاملها. وكيف يمكن لهذه المرأة أن تكون وسيلة خلاص وتحرر؟ ربما اعتبرها السندباد الرد على تلك الشريرة الفاسقة التي تروغ كالحية الملساء. أما إيليا حاوي فيفسر تخلي الشاعر عن تلك المرأة بقوله: ((أن خليلاً كان يقول أن أية امرأة تقع في الدرجة العاشرة من اهتمامه)) ثم بقوله: (( المرأة كانت مرحلة تطواف لشاعر؛ أقام معها ولم يدعها تذهب كما فعلا قبلا في (نهر الرماد)، إلا أنه ظل يحس معها أن نفسه ليست معه كلها؛ وأنها مازالت تبث حنينها للأمر الغامض المستتر. المرأة ليست إلا المرحلة لأنها ليست المطلق وليست الحرية وليست الحضارة وليست الكلمة ذات الحروف الكاملة))

فالسندباد ما يزال يتوق إلى ذلك الشيء الذي يحسه ولا يعيه؛ لذا نراه يفرغ بيته من جديد ويطهر نفسه في انتظار ذلك الشيء:

ولم أزل أمضي وأمضي خلفه

أحسه عندي ولا أعيه

أود لو أفرغت داري عله

إن من تغويه وتدعيه

أحسه عندي ولا أعيه

هكذا يطول الانتظار وتستمر معه معاناة السندباد؛ ويزداد بكاؤه وصمته؛ لقد جفت شفتاه ولم تسعفه العبارة؛ وها هو يتساءل في حزن عميق عن أسباب تأخر البشارة. ألانه لم يستطيع تحملها؟ أم لأن الوقت لم يحن بعد؟

كيف لا أقوى علي البشارة؟

شهران؛ طال الصمت،

جفت شفتي،

متى متى تسعفني العبارة؟

إن هذا التساؤل المتكرر الدال على جفاف القريحة وبعد البشارة، يشبه في واقع الأمر الإعصار الذي يسبق العاصفة، لأن السندباد يشعر بشيء ما يسري في دمه، ويلوح لـه من بعيد كالبرق اللامع الذي يصعب القبض عليه... أهي البشارة وموعد الانبعاث؟ أم طيف من أطياف الرحلة الطويلة وهواجسها التي لم تنته بعد؟.

واليوم، الرؤيا تغنى في دمى

برعشة البرق صحو الصباح

وفطرة الطير التي تشتم

ما في نية الغابات والرياح

تحس ما في رحم الفصل

تراه قبل أن يولد في الفصول

تفور الرؤيا، وماذا،

سوف تأتي ساعة،

أقول ما أقول

في المقطع التاسع تتحقق البشارة ويطل السندباد على داره الجديدة التي تشكل المحور الرئيسي الثاني في القصيدة:

تحتل عيني مروج، مدخنات

وإله بعضه بعل خصيب

بعضه جبار فحم ونار

مليون دار مثل داري ودار

تزهو بأطفال غصون الكروم

والزيتون، جمر الربيع

غب ليالي الصقيع

إنه الانبعاث حقاً، وصل إليه السندباد بعد تجربة طويلة ومعاناة كبيرة، سالت من خلالها دماؤه على حجارة الطريق، وتلقى من العذاب ما تلقى، وهي أيضاً بشارة من الشاعر لأمته التي ينبغي عليها أن تعاني وتتألم كي يتم لها الانبعاث الحقيقي، وإلا سوف تعيش على الهامش متخلفة عن الركب والتطور.

لقد أضحت دار السندباد وغيرها من الدور تموج بالخصب والاخضرار، فيها أطفال كالبراعم يتفتحون، ومروج ومدخنات دلالة على الحركة الإنتاج ودور الإنسان الفاعل في الحياة. إذ لم يعد السندباد ذلك الشخص الذي عرفناه في مطلع القصيدة، لقد تغيرت شخصيته بعد أن غاص في أعماق ذاته فطهرها من الزيف والشوائب.

وإذا كان سندباد الأسطورة قد عاد إلى بغداد من سفراته محملاً بالجواهر والكنوز، وأزمع أن لا يرحل أبداً وخلد إلى السكينة مستعيداً مع سماره حكاياته وطرائف رحلاته، وما حصل لـه من غرائب الأمور وعجائبها. فإن سندباد القصيدة ـ وإن دخل في تقاطع واضح مع سندباد الأسطورة ـ ظل يشق طريقه إلى وجدانه، فكانت رحلاته بحثا في أعماق ذاته وتاريخ حضارته، لا للحصول على الكنوز والأموال، وإنما لاكتشاف ما بقي في هذه الذات من قيم تساعد على تجاوز المحنة وتخطي الانحطاط. وهنا يكمن الفرق الجوهري بين سندباد الأسطورة وسندباد القصيدة، كلاهما يرحل في الزمن، الأول نحو الخارج أو المستقبل لأن هاجس الرحلة لديه هو المسيطر، والثاني نحو الداخل أو الماضي، لأن زاد الرحلة لا يتم في رأيه إلا بذلك. والسفر نحو المستقبل لا يتحقق إلا بالانطلاق من الماضي، وأن الانبعاث والتوق الدائم إلى تغيير الواقع وتجاوز الممكن والمتاح، لا يتم إلا بالمعرفة والهدم الشامل للأفكار والإيديولوجيات البالية والقيم الرثة، تمهيداً لبناء جديد، وتلك هي مهمة الشعراء والفلاسفة.

لقد أدرك خليل حاوي هذا الدور المنوط بالشعراء المعاصرين، فجعل بشارة السندباد الحقيقية تكمن في شاعريته وعبقرية أفكاره:

عدت إليكم شاعراً في فمه بشارة

يقول ما يقول

بفطرة تحس ما في رحم الفصل

تراه قبل أن يولد في الفصول

بهذا التحول أو الولادة الجديدة أكتسب السندباد شخصية ثانية قادرة على تغيير الأفكار وبناء واقع جديد، بعد أن هدم داره (رمز الحضارة القديمة)، وقضى على مفاسدها وتناقضاتها وبنى داراً جديدة (رمز الحضارة الجديدة أو المنتظرة). وقد لاحظنا كيف أنه وصل إلى ذلك بعد معاناة كبيرة وانتظار طويل، كشفت عنه المقاطع الثمانية للقصيدة، حيث كان في كل مرة يعود بنا إلى المشكلة نفسها، إلى الشيء الذي يحسه عنده ولا يعيه.

وهذه العودة إلى البداية أو المشكلة هي التي كانت تصنع الموقف التراجيدي وتشكل مفاصل القصيدة وانعطافاتها حيث جعلت منها بنية حلزونية دائرية تتشابك فيها عدة خيوط أو عناصر لكل منها قيمة خاصة، وقيمة يستمدها من تفاعله مع العناصر الأخرى، التي تجعل منفتحاً على إيحاءات كثيرة وقراءات متعددة.

لم يكن الشاعر عند اختياره رمز سندباد، كقناع له، إزاء عملية بسيطة يستبدل فيها صوتاً مباشراً بصوت آخر غير مباشر على سبيل الكناية، بل نحن في الحقيقة، إزاء صوت جديد متميز، يعتمد تميزه ـ كجدته ـ على درجة تفاعل كلا الصوتين على السواء. هذا ما حققه حاوي وهو يلتحم بموضوعه من خلال قناعه الأسطوري (السندباد) حيث ألغى المسافة التي تفصل بينهما، وألقى نفسه في خضمِّ الموقف التراجيدي ليصنع كما يفعل بعض الشعراء ذوي التجارب المحدودة، وإنما راح يلقي بنفسه في قلب المعترك، بل وأكثر من ذلك فإنه يرشح نفسه نبياً أو منقذاً للأمة، لذا نراه يلجأ في كل مقطع من مقاطع القصيدة إلى تطهير ذاته في انتظار النبوءة أو الوحي.

ومن ثم كان هاجسه قضية أمة وحضارة تعاني الانحطاط والتخلف من جرَّاء الدعارة المتفشية والازدواجية المقنعة كما رسمتها مقاطع القصيدة، فالمرأة الفاسقة التي تراوغ الحية، والكاهن رمز الطهارة يمارس الدعارة في المعبد، و(خليج الدنس المطلي بالرحيق)، كل هذا يكشف عن حقيقة مرة متجذرة في عمق ذوات مجتمعاتنا وحضارتنا، لازلنا نتعامل معها بالتستر والكذب، وهو الشيء الذي يرفضه خليل حاوي لأنه سبب محنته وتألمه، وشعره صرخة مدوية في النفوس والآذان: لم لا نملك الجرأة على كسر القيود واختراق الحواجز التي تعوق تطورنا؟.

إن السندباد في هذه القصيدة هو الشاعر، وهو أيضاً رمز للأمة العربية، فبعد أن كان غارقاً في مستنقع حضارته الآسن، كما صورته القصيدة، نراه الآن قد ولد من جديد وعاد يحمل معه بشارة ميلاد حضارة جديدة، تبنى على سواعد الإنسان الفاعل في هذا الوجود.

قد تكون المعاناة التي مر بها خليل حاوي ((هي التي ساقته إلى الإيمان بالحضارة على أنها فعل تقدم، وأن إله التقدم هو إله الإنسان الحقيقي، كما آمن به مفكرو القرن الثامن عشر في فرنسا)). ومن ثم فالإنسان وحده قادر على كسر الحواجز وتجاوز الصعاب لتقرير مصيره وبناء حضارته، فهو المحور الذي يبدأ منه كل شيء وينتهي إليه. وهذا الطرح يشبه، في بعض جوانبه طرح الفيلسوف الألماني (فريدرش نيتشه 1844ـ 1900) حول فكرته (الإنسان الأعلى).

الإنسان العربي المعاصر، في نظر حاوي، لا قيمة لـه في ذاته، ولا مكانة لـه في هذا العالم، وكل ما بقي منه أنه وسيلة لبعث إنسان آخر من النوع الأعلى على حد تعبير نتشه. ومن ثم كان بعث السندباد أول محاولة يقوم بها الشاعر بوصفها رمزاً لبعث الإنسان، لأن هذا الأخير لا يستطيع أن يفعل شيئاً ما لم يبعث من جديد كما بعث السندباد. غير أن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: كيف يمكن لهذا الإنسان أن يحقق هذا التحول أو الانبعاث؟ وما هو الطريق الذي ينبغي لـه أن يسلكه لبلوغ غايته؟.

وبشيء من التأمل في النص، نرى كيف أن هذا التحول قد تم انطلاقاً من ذات السندباد، وبالتالي من ذات الجماعة أو الأمة عن طريق التطهر واجتناب المفاسد والشرور. وخليل حاوي نفسه يعلق على رمز السندباد في استهلال قدم به قصيدته هذه يقول فيه: ((ومما يحكى عن السندباد أنه راح يبحر في دنيا ذاته، فكان يقع هنا وهناك على أكداس من الأمتعة العتيقة والمفاهيم الرثة، رمى بها جميعاً في البحر ولم يأسف على خسارة، تعرى حتى بلغ بالعري إلى جوهر فطرته، ثم عاد يحمل إلينا كنزاً لا شبيه لـه بين الكنوز التي اقتنصها في رحلاته السالفة)) .

يتضح مما سبق أن هذا التحول الحاصل في ذات السندباد، أو الحل الذي قدمه حاوي لأمته، يتسم بالطابع الصوفي أو المثالي القائم على مجاهدة النفس وتطهيرها من الشوائب. ولهذه الرؤية جذور خفية تعود إلى تلك الفترة، التي نظم فيها الشاعر قصيدته، وهي فترة ((كان خليل قد تشبع من الفلسفة الأفلاطونية والأفلاطونية المحدثة والغنوصية والبيثاغورية والأورفية ودرس ودرّس المتصوفة وعرف عبر هذه المذاهب كيف يرجع الإنسان إلى ذاته، يهدمها ويرفع من أنقاضها بناءً جديداً، أضف إلى ذلك كله تنشئته على يد بعض الرهبان اليسوعيين الذين كانوا في ذلك الزمن شديدي الحرج بأمر الخطيئة وكانوا يدربون الفتيان على ما كانوا يسمونه (الإماتة) أي قتل النفس لتحيا طاهرة ووأد النزوات كي يكون المرء ابن حريته واختياره))

يعلق يوسف حلاوي على هذا الحل بأنه لا يقوى على الصمود أمام تحديات الواقع لأن الانحطاط النابع من الذات هو انعكاس للواقع الاجتماعي، وبالتالي لا يمكن بناء الإنسان من الداخل إلا من خلال التغيير الاجتماعي في الخارج، أي بتغيير البنية التحتية التي يرتكز عليها المجتمع. وهذه في اعتقادنا نظرة ماركسية لا تستطيع أن تقدم حلا متكاملا لمشكلة التخلف والانحطاط في الوطن العربي. فالتحول يبدأ من الداخل (الذات) نحو الخارج (الجماعة) وليس العكس، أي أنه يبدأ من ذات الفرد ليتحول إلى ذات الجماعة من خلال تفاعل الأفكار وتلاقحها، مما يؤدي إلى ظهور نمط من التفكير والوعي بإمكانهما إحداث الانقلاب أو الثورة لمحق القيم الرثة والإيديولوجيات الفاسدة.

لقد استطاع خليل حاوي من خلال رموزه التاريخية والأسطورية أن يتغلغل إلى عمق الذات العربية ويكشف الزيف الذي يكتنفها ويحيط بها، وهو زيف لا يمكن إزالته إلا عن طريق فيلسوف أو شاعر محنك كما اتضح من القصيدة في مقطعها الأخير.

ومهما يكن فإن الشاعر قد وفق إلى حد كبير في إعطاء نصه شكلاً تراجيدياً وبعداً إنسانياً من خلال صراع السندباد مع نفسه، كما أنه استثمر هذه الأسطورة استثماراً فنياً بارعاً، بحيث لم ينقلها كما هي عليه في الأصل، وإنما راح يضفي عليها طابعاً مغايراً أكسبها أبعاداً جديدة، مكنته من أن يمارس لعبة الحضور والغياب، وأن يحمّل السندباد (القناع) عناء تجربته بحيث أمسى رمزاً لرحلة الإنسان العربي وهو يتخطى الحواجز ليصنع حضارته ويقرر مصيره.

وخلاصة القول فإن خليل حاوي قد وجد في رمز السندباد القناع والعلم على تجربته الشعرية وذلك منذ مطلع ديوانه الأول (نهر الرماد) في قصيدته (البحار والدرويش) إذ كان يصف حياته وشعره بأنهما رحلة دائمة من أجل المعرفة، وبحث مستمر عن مصادر التحرر والنماء. وقد استطاع الشاعر عبر هذه الرحلة أن يعثر على اللغة البكر التي تستطيع أن تحمل عنه عبء التجربة، ففي قصيدته (الناي والريح في صومعة كيمبردج) من ديوانه الثاني كشف عن أسلوبه الشعري وتفهمه لأدواته الفنية وللغة الشعر حين قدم لتلك القصيدة بقول مالرميه ((يجب أن نبعث لغة القبيلة لنشتق منها العبارة التي تصنع الوجود)). وديوانه (الناي والريح) تعبير عن مرحلة جديدة يمكن أن ندعوها المرحلة التطهيرية أو الصوفية عبر أسفار في أنفاق النفس وخباياها، كان السندباد من خلالها يسقط عن نفسه الذوات الزائفة التي تراكمت عليه طيلة قرون من الانحطاط والجمود.

وخليل الحاوي، في نظرنا، أحد الشعراء الذين نجحوا في استغلال حكايات السندباد، ووظفوها توظيفاً فنياً تجلّت ملامحه على المحوريين: السياقي والدلالي، ولأنه من الشعراء التموزيين، فقد أضفى على سندباده صفات الديمومة والانبعاث والقدرة على حمل البشارة، وذلك بعد أن انتشله من الفشل والاستسلام للراحة والجمود باقتراحه لـه رحلة ثامنة تختلف عن بقية رحلاته السبع التي قام بها في ألف ليلة وليلة، من حيث أنها تتجه نحو الداخل أو الذات.

بهذا يمهد الشاعر لظهور أسطورة جديدة لا تكون شهرزاد راوية لأحداثها، وإنما سترويها الأجيال للتاريخ.. إنها أسطورة الإنسان العربي الضائع، الباحث عن ذاته وقيمه وحضارته. وتشبث الشاعر العربي المعاصر بهذا الرمز، في تلك الفترة بالذات، دليل على تعطشه للحرية ورغبته في كسر القيود للارتحال نحو آفاق رحبة تسمح لـه بتحقيق وجوده وكينونته.

يرى حاتم الصكر أن عزوف الشعراء عن استثمار الجانب البطولي في شخصية السندباد يعود لصلته الأبدية بمدينته أولاً، ولأن رحلاته تشكل دورة غير تامة ثانياً، ويستثني من هؤلاء بعض الشعراء الشباب في الخليج العربي، ولاسيما البحرين الذين اهتموا بهذا الجانب وأعطوه العناية الكاملة. والواقع أن عدم استثمار الشعراء لهذا الجانب وغيره من الجوانب البطولية في شخصيات أخرى، يعود إلى كون الوعي الثوري لدا الجماهير العربية لم يتبلور بعد حول شخصية بطولية تستطيع تحريرها، أو لأن النموذج البطولي لم يكن ينطبق على الظروف العربية حيث التمزق والتخلف والاحتلال، كما قد يعود إلى الاتجاه الرومانسي الذي كان سائداً آنذاك الداعي إلى الهروب من الواقع نحو آفاق أخرى.

/ 62