د ـ أسطورة سيزيف (رمز الإدانة المطلقة والفشل الأزلي)
إن الوقوف عند هذه الأسطورة في الشعر العربي المعاصر، وإحصاء القصائد التي وظفت فيها، يُبرز مدى اهتمام الشعراء المعاصرين على اختلاف توجهاتهم وأفكارهم، بهذه الأسطورة التي تكاد تكون سمة مميزة لبعضهم، كما سيتضح بعد قليل.ترمز أسطورة سيزيف باختصار إلى مجانية العمل الإنساني وضياع الجهد، كما أنها تجسيد للإحسان بالعبث واللاجدوى ((بانعدام التوافق أو الانسجام بين حاجة الذهن إلى الترابط المنطقي، وبين انعدام المنطق في تركيب العالم))، وهو إحساس رافق الإنسان منذ أن استعمل ذهنه وفكره في فلك الألغاز التي تواجهه في هذه الحياة، وقد ازداد هذا الإحساس حدة في العصر الحديث بسبب التغيرات الكبيرة التي طرأت على الواقع الإنساني على صعيد التفكير والتصور مما عمّق هذا الإحساس، أو بالأحرى هذه الرؤية العبثية عند بعض الشعراء.وإذا كان ألبير كامي وهو من المعجبين بهذه الأسطورة كما يظهر من خلال كتابه (أسطورة سيزيف) ـ الذي نقله إلى العربية الأستاذ أنيس زكي حسن ـ يأخذها بهذا المعنى، دون أن يضيف إليه شيئاً، ليقيم عليه جوهر فلسفته حول نظرته إلى الإنسان والمجتمع، مثله مثل الأدباء العبثيين الذي يؤمنون بانعدام الهدف انعداماً مطلقاً من الحياة. فإن الشاعر العربي المعاصر كان خلافاً لذلك بحكم الرواسب الثابتة المستمدة من الفكر العربي والعقيدة التي ترفض أن تكون الحياة عبثاً ولهواً. غير أن تأثر هذا الشاعر بالشعر الغربي وفلسفاته بحكم الاحتكاك والتأثير والتأثر الحاصل بين الثقافات والحضارات، جعل هذا الإحساس بالعبث واللاجدوى يتفاقم لدى بعض الشعراء الذين عاشروا حالات من التقلب الفكري نتيجة انتماءاتهم المختلفة، أو نتيجة هذا التساؤل المستمر الذي طرحه الفكر البشري عبر أسطورة (سيزيف) وهو يقوم برفع الصخرة من سفح الجبل إلى قمته دون غاية ولا هدف.يقول صلاح عبد الصبور وهو يطرح السؤال نفسه:ما غاية الإنسان من أتعابه، ما غاية الحياة؟يا أيها الإله!لا يريد صلاح عبد الصبور من طرحه لهذا السؤال الوصول إلى إجابة، بقدر ما يريد التعبير عن رؤية فلسفية تؤكد عبثية الجهد الإنساني المبذول، ما دام هذا الجهد لا ينتهي إلى غاية أو هدف. والواقع أن هذا التساؤل نابع عن تساؤل آخر مفاده أنه إذا كان الإنسان محكوم عليه مسبقاً بالموت والجحيم فلماذا كل هذا الجهد والتعب؟ وهو سؤال طرحه من قبل أبو العلاء المعري بشيء من التهكم والسخرية. ويزداد هذا الإحساس بالعبث ومجانية التجربة الإنسانية حين يقول:أموت لا يعرفني أحدأموت لا يبكي أحدوقد يقال، بين صحبى، في مجامع المسامرةمجلسه كان هنا، وقد عبرفيمن عبر...يرحمه الله...لقد تمكنت هذه الرؤيا، وهي في جوهرها رؤيا سيزيفية كما أسلفنا، من نفسية صلاح عبد الصبور فطبعت العديد من قصائده وبالخصوص تلك التي كتبها حين استشعر موت الإنسان الإنسان، فأدى به هذا الشعور إلى التسليم بأن هذا الكون موبوء، لا يصلحه شيء، والأرض فيه بغي طامث أيامه مريضة، دنياه عجوز عقيم، وعالمه يموج بالتخليط والقمامة، وبأن إنسان هذا العصر إنسان أجوف مزيف، غير أصيل:يا صاحبي!...ما نحن إلا نفضة رعناء من ريح سمومأو منية حمقاءوالشيطان خالقنا ليجرح قدرة الله العظيمأما:الإنسان الإنسان عبرمن أعوامومضى لم يعرفه البشرحفر الحصباء، وناموتغطى بالآلام...هكذا استطاع صلاح عبد الصبور أن يحوّل مضمون الأسطورة اليونانية إلى رؤيا شعرية وفلسفية مكنته من الغوص في غور حياتنا المعاصرة ليجلي سمتها البراق وجوهرها المزيف، ومن ثم فلا غرو أن يكون سيزيف هو البطل الذي يطل من هذه المقاطع الشعرية معبراً عن وحدة الشعور الإنساني حين ينتابه السأم والملل.