الخاتمة - اثر التراث الشعبی فی تشکیل القصیدة العربیة المعاصرة نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

اثر التراث الشعبی فی تشکیل القصیدة العربیة المعاصرة - نسخه متنی

کاملی بلحاج

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

الخاتمة

يظل التراث بعامة والشعبي منه بخاصة محتفظاً بعلو منزلته وسمو مكانته وثراء قيمه، وما كان لجذوته أن تخبو إذا تعامل معه من يحسن بعثه ويجيد استثماره، ويقصد معالم القوة فيه ومكامن الغنى والإشراق، فالتراث إذا جنبناه الإفراط والتفريط، ونظرنا إليه بعين الاعتدال والإنصاف، وربطناه بالحاضر أمكننا أن نرى فيه أشياء جديدة، ووظائف وقيماً غير التي ارتبطت به في القديم، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن الشيء الذي ربطناه به يكتسي ملامح متفردة في ظاهرها وباطنها. هذان الأمران لمحناهما جيداً ونحن نلامس حضور التراث الشعبي في جانبه الأسطوري في الشعر العربي المعاصر.

إن الصروح الجديدة والتضاريس المتميزة التي عرف بها هذا الشعر، لم يسهم في إنجازها فقط: اللغة الشعرية الموحية المرتبطة بتجربة شعرية مستقاة من الحاضر الذاتي والجماعي أو الصورة ذات التشكيلات الحرة المفتوحة على بلاغة من صياغة الهمّ الشعري المتخلق مع الموهبة والذوق والرؤية، أو الموسيقى المتساوقة مع طقوس الفكرة الغازية للروح، وإشعاعات الوجدان المنتفضة ضد السكون، وإنما كان للتراث الشعبي قدر معتبر وقسط وافر في بناء صرح الشعر العربي المعاصر وتشكيل تضاريسه من عدة جوانب نذكر منها: المعجمي، الأسلوبي، التصويري والإيقاعي.

إن المراجعة الموضوعية لأثر الأسطورة بمختلف أشكالها وأنواعها ووظائفها في الشعر العربي المعاصر تكشف بقوة ووضوح أن التراث بعامة والشعبي منه بخاصة خلق للحياة والخلود، يحتضن التجربة ويقدم الرؤية، ذلك كله في أسلوب قوامه التلميح والترميز، ولغة أساسها الإيجاز والتكثيف تشع بالإيحاء والظلال في إحالة بليغة ومستمرة على ما عداه من العوالم والفضاءات.

إن التوجّه إلى التراث الشعبي والاستعانة به في تشكيل معالم النص الشعري المعاصر لم يكن وليد الترف الفكري أو العبث الفكري، إنما كان لحاجة ملحة هي الباعث والمحرك. فقد وجد الشاعر المعاصر في النص الشعبي النموذج والمثال، والملجأ والملاذ، يعبر بواسطته عن جراح الذات والجماعة وتصدعات الواقع، كما يجسد من خلاله القهر الروحي الناجم عن اختلال القيم، والكبت الفكري الناتج عن الفساد الاجتماعي، ويفضح الاستبداد السياسي من خلال ضياع الحقوق وغياب العدل، فيستعين به على الخروج من مستنقعات الواقع الآسن إلى رحاب آفاق الخيال الواسعة النقية يستمد من قواها ويتزود بقيمها لمجابهة الحتمية.

يرغب الشاعر العربي المعاصر بهذا الصنيع ربط القديم بالمعاصر، الغائب والشاهد، كما يسعى إلى تبصيرنا بتجربته الفكرية والشعورية الضاربة في أعماق الوجود الإنساني التليد. فالتراث لم يستنفد أغراضه بعد، على الرغم من الفوارق الزمنية الزمنية والمادية الكبيرة والعميقة التي تفصلنا عنه في عالم المادة.

إن عملية توظيف التراث الشعبي في النص الشعري عمل قديم، حاوله بعض الشعراء في العصور العربية القديمة (الجاهلي، الإسلامي، الأموي والعباسي) إلا أن محاولاتهم كانت في مجملها وصفية خارجية لا تتعدى الإشارات القصصية التاريخية لأسباب عديدة سبق وأن أشرنا إليها، لكن الشعراء المعاصرين توسّعوا في استخدام عناصر التراث الشعبي، ولقد مرت هذه العملية بعدة مراحل: تسجيل التراث أو التعبير عنه، توظيف التراث الشعبي أو التعبير به، البحث عن الأقنعة أو النماذج الأسطورية، إلى أن وصلت إلى مرحلة الأسطرة، وفيها تحول المألوف إلى أسطورة، وهي أرقى منازل التعامل مع التراث الشعبي، فيها انتقل الشاعر من واقع المستعين بالتراث إلى واقع المنتج والمبدع لهذا التراث، تصبح اللغة فيه مثخنة بالسحر والترميز، يتداخل فيها الأسطوري بالشعري، فيتطافران على صياغة النص صياغة عضوية نكاد لا نفصل فيها بين الأول والثاني.

لم تكن هذه العملية كلها إيجابيات ومزايا، بل هي كأي محاولة فنية لم تنج من بعض المزالق والسلبيات بخاصة في المراحل الأولى، لكن إشكالية الغموض التي نتجت عن استعمال بعض النصوص التراثية الشعبية من ضمن القضايا المثيرة للجدل في النقد المعاصر، فكل طرف يراها بمنظاره الخاص في انعكاساتها على النص الشعري والأسطوري، وعلى المتلقي، ومن ورائها الشاعر.

ومهما قيل في المحاسن والسلبيات الناجمة عن توظيف التراث الشعبي في الشعر المعاصر، فإن ما يمكن التأكيد عليه أن النص الشعري بموجب ذلك التوظيف يتحول إلى بناء لا يشبه بناء النصوص الشعرية التي غاب عنها التراث الشعبي، المعجم اللغوي تتنازعه الأديان والطبيعة، الإنس والجن، الغيب والشهادة، الأساطير والخرافات والحكايات، ينتابه الانغلاق طوراً والانفتاح طوراً آخر، لا يحيل إلى ذاته أبداً وإنما إلى الآخر الحاضر والغائب، المتخيل والواقع؛ الأساليب والتراكيب فيه متباينة التضاريس والتشكلات يغمرها الإيجاز، والحذف والتكرار، والتقديم والتأخير، لا تستسلم للقارئ لأول وهلة بيسر وسهولة، ولا تطّرح لـه مكنوناتها إلا بعد عسر متابعة وطول مراجعة، يتصاعد فيه الخيال واللا معقول، وتتكاثف فيه الصور وتتداخل المشاهد، يتجاذبه الأبيض والأسود، الأمل واليأس، الرغبة والرهبة، العراك والعناق. كل شيء فيه ينبض بالإيقاع تنتفض بموجبه الحروف والكلمات لتقرع الأسماع وتنبه المشاعر والأفكار؛ والموسيقى فيه تتكاثر فيها الأوزان والأنغام تسلي الكل وتريحه، تطهره وتزكيه، ترمي به بين أحضان الخيال والأحلام لتعود به ممتلئاً مزوداً لمواجهة اللحظة والآن؛ هذا البناء يجعل من النص متناً مفتوحاً خصباً أمام مختلف القراءات في ارتباطاتها بمختلف الأمكنة والأزمنة والمناهج وقيود أخرى ترتبط بالقراءة. القارئ لـه يحاول ويكرر ويبذل الجهد، يفكك ويشرح، يلم ويجمع، في خصام إيجابي وجدل بنّاء، يقرأ النص ويقرأ مقدرته على التحصيل والتفكير وتحليل للخطاب والمخاطِب.

إن كان من رسالة يريد هذا البحث تمريرها لكل قارئ، فهي أنه لا بد من مراجعة التراث وتثمينه وحسن محاورته، لاستجلاء ما فيه من قيم وقوى، بغية استثمارها وتوظيفها جمالياً وفكرياً، وذلك بربطها بالزمان والمكان، بالذات والجماعة، بالواقع والمحتمل. فالتراث في بعض جوانبه زينة للنص ولبنة تحكم بناءه وروح تعمق فيه الوجود والصلات وتؤصل فيه البلاغ والرسالات.

/ 62