د-محمد الفيتوري والبحث عن الجذور الضائعة - اثر التراث الشعبی فی تشکیل القصیدة العربیة المعاصرة نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

اثر التراث الشعبی فی تشکیل القصیدة العربیة المعاصرة - نسخه متنی

کاملی بلحاج

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

د-محمد الفيتوري والبحث عن الجذور الضائعة

إن البحث عن الجذور والارتداد إلى الذات اقتضى من الفيتوري العودة إلى زمن الطفولة عبر المقدس الشعبي الذي تشبع به وهو صغير يستمع لأقاصيص جدته الزنجية وخيالاتها الفلكلورية، فقد قرأ سيرة البطل الشعبي عنترة فأعجب به ووجد في شخصه ما يماثله، وطالع رحلة بني هلال وتعرف إلى أبطالها، وسيرة حمزة البهلوان، والأميرة ذات الهمة، وسيف بن ذي يزن، وفيروز شاه، وألف ليلة وليلة، وأشبع احتياجاته الروحية والعاطفية بقراءات كتب التصوف التي عثر عليها في مكتبة أبيه، فتجلّت تلك الآثار واضحة على كتاباته وشعره، فهو يقول مشيراً إلى ما كانت تمارسه الطبقات الشعبية من حوله:

كإفريقيا في ظلام العصور

عجوز ملفعة بالبخور

وحفرة نار عظيمة

ومنقار بومة

وقرن بهيمة

وتعويذة من صلاة قديمة

على الرغم من أن هذا المقطع جاء ليوضح فكرة سابقة على سبي التشبيه والتمثيل، فهو يصور بدقة وصدق، واقعاً اجتماعياً، كثيراً ما يتحكم في مواقف الناس وتصرفاتهم، بل وتشبث الذهنية الشعبية الإفريقية بهذه الطقوس والميل إلى ممارستها عند الحاجة. وإذا كان الشاعر يلح على ذكر هذه الممارسات وما يرافقها من تعاويذ وأدوات سحرية كالبخور والنار ومناقر الطيور وقرون البهائم، فما ذلك إلا دليل على تلك النزعة الارتدادية نحو الذات الجماعية المسكونة بهاجس البحث عن الجذور.

يبدو من هذا المقطع أن الشاعر لم يوظف هذا المعتقد توظيفاً فنياً لذاته لأنه أورده كنص تشبيهي على طريقة القدماء. لكنه على الرغم من ذلك فقد استطاع أن يجعل منه وسيلة مساعدة لبناء الحدث ورسم الأجواء المحيطة به. ويصادف قارئ شعر الفيتوري مقاطع أخرى مشابهة تتحدث عن السحر وكتابة التعاويذ، كحديث العرافة لإحدى بنات الحي:

عند القمر الرابع

ثم اغتسلي عند السابع

وخذي هذه الشمعات السود

أضيئيها في المقبرة المهجورة عند الظهر

وأعيدي كلماتي

لا تنسيها

فلسوف تفيد

ثم تقول:

يا بنتي هذا حق الأسياد علينا

إن شاءوا شئنا

وإذا امروا أذعنا

أول شيء نسجله على هذا النص، هو حرص الشاعر على نقل هذا المعتقد دون الإخلال بنظامه أو إسقاط أحد شروطه ولوازمه، وذكر كل التفاصيل المتعلقة به سواء من حيث التوقيت والزمن، أو من حيث ما يجب فعله وتركه. أما من الناحية اللغوية فالنص يحاول أن يجاري المتلقي، أو الشخصية الشعبية وهي المقصودة, لأن الكلام موجه إليها، ومن ثم وجب مسايرة تفكيرها ومستوى ثقافتها وإيمانها ببعض الغيبيات، واعتقادها فيما يجوز ولا يجوز. لذا نجده يصطنع بعض الألفاظ والتعابير الشعبية مثل (خذي هذه الشمعات السود- لا تنسيها الأسياد..)، وكأن الرسالة أو الهدف هو إيصال المعنى إلى المتلقي في غير غموض أو التباس.

أما الشيء الثاني الذي نلحظه في هذا النص هو تركيزه على العناصر التالية:

(الزمن- العدد- اللون) وهي عناصر أساسية ذات حضور قوي في معظم المعتقدات والتصورات الفلكلورية بصورة عامة. وإذا ما ربطنا بين هذه العناصر وما ترمز إليه من أبعاد سحرية ندرك الوظيفة التي يمكن أن تنتج من تفاعلها وتلاقح أجزائها وتداخلها. فانتظار القمر الرابع، والاغتسال عند السابع، يعني البحث عن نقطة البداية، لأن في الاغتسال طهارة وفي الطهارة تخلص من الشوائب والخطايا..

فالزمن من الناحية الطقوسية هي القوة المحركة التي تربط البدايات والنهايات، وهو العنصر المتحكم في جميع الممارسات، بدونه تتعطل دورة الحياة ويتوقف التواصل والسيلان، والعدد حذر كل الأشياء منه تولد الحقيقة وينبثق اليقين، وللعدد سبعة ارتباط وثيق ببداية الخلق أو الحياة، كما تحدثنا عن ذلك الكتب الدينية، فالله خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش في اليوم السابع. وفي الإصحاح الثاني أنه اليوم الذي استراح فيه الرب بعد أن أفرغ من عمله وهو خلق العالم. ولا يقل العدد أربعة عن سابقه دلالة فهو رمز الثبات والشمول، ولذا كان أول نقطة يرتكز عليها في مثل هذه العملية.

أما اللون -وقد أشار النص إلى الأسود منه- فهو رمز الحداد والتشاؤم وكل الأشياء الدالة على العدمية والفناء. وللقمر مكانة رفيعة في المعتقد الشعبي، فهو كوكب إيقاعات الحياة، والإله والزوج، وقد تمتد رمزيته لكل ما يبدو أنه مسيطر عليه كالماء، المطر، النبات، الخصوبة، ودورة الطمث النسوية. أما المقبرة فهي رمز السكون والموت.

بعد هذه المقدمة الموجزة عن الزمن والعدد واللون، نعتقد أننا قادرون الآن، على قراءة هذا النسج الرمزي الذي يقوم عليه هذا المعتقد والذي يعكس بصورة شبه غامضة رغبة الإنسان في تجديد حياته والانتصار على ضعفه وفشله عن طريق القوى السحرية والغيبية. إن النص وهو يتحدث عن هذه الممارسة السحرية كأنه يستحضر الأسطورة الشعبية الجزائرية التي تقول بـ (سحور المحبة بتنزيل القمرة) وهي من أصعب الممارسات السحرية المستعملة في طقوس الحب والزواج، لأنها كما تذكر الأسطورة، (تنزل برقبة وتصعد برقبة) أي أن نزول القمر بهذا الفعل السحري يؤدي إلى موت شخصين، الأول عند نزوله، والثاني عند صعوده.

وحتى لا ننصرف عن سبيلنا ونلج في أمور ليس هذا موطنها، نقول إن الفيتوري استطاع أن يحول ببساطة المعتقد الشعبي بأبنيته التعبيرية ورموزه إلى زخم شعري عن طريق إثارة أخطر القضايا المعاصرة التي تعاني منها الأمة، وهي الجهل والأمية والاعتماد على الأساليب الأسطورية في معالجة الواقع.

إن اجتهاد الفيتوري في نقل هذه النصوص دون إجهاضها أو تغيير ملامحها، إلا بقدر ما يخدم نصه الشعري، دليل على حرصه واقتناعه بما في النص الشعبي من شعرية زاخرة تجر وراءها خبرة الأجيال عبر الزمان والمكان.

وفي نص آخر من مسرحية (أحزان إفريقيا) ينقل الفيتوري ابتهالاً سحرياً على لسان ادجار سولارا يتقدم به إلى العاصفة وقد اشتد غضبها يقول فيه:

الموت والإنسان والقدر الساخر

والبحر يا ربان ليس لـه آخر

فاذهب مع التيار

وعد مع التيار

أقدار... أقدار

الموت في القلاع

والريح في القواقع

يا سمكات القاع

عدنا إلى المنابع

أمطار أمطار

الريح عطور

والبرق جسور

للنور والنار

للنور والنار

أجوى.. أجوى.. أجوى

يوظف الفيتوري في هذا النص عدداً من التقنيات المتمثلة في هذا الامتداد الإيقاعي المتحكم في نظام الجمل من حيث الطول والقصر، فهي تطول مع بداية المقطع وتتصاعد تصاعد إيقاع العاصفة لتصل إلى ذروة الاحتدام في الموقف المصوغ (الموت في القلاع)، ثم تقصر في تراجع وتكرار متباطئ دال على هدوء العاصفة وتلاشيها.

وهكذا يتضح أن النص عبارة عن ترديد لابتهال سحري فيه توسل للتيار أولاً، ثم للأسماك والقاع والأمطار والريح والبرق والنور والنار ثانياً. وبانتهاء النص، كما تشير على ذلك الناحية الإيقاعية والتركيبية منه، نشعر وكأن العاصفة قد تلاشت رويداً وساد الصمت والهدوء.

بالإضافة إلى ذلك نلاحظ أن الإيقاع والتكرار هما العلامتان البارزتان في هذا المقطع الذي بدأ بجمل طويلة وانتهى بجمل قصيرة تتألف من متواليات اسمية تمضي في الظاهر على نسق شعري، بينما يشير نظامها إلى مستويات مختلفة في هذا النسق بحيث نجد أنفسنا أمام تقلبات دلالية أفلح الشاعر -جمالياً- في إبرازها، وهي هذا الانزياح من السحري إلى الشعري عبر قنوات مشتركة (الإيقاع والتكرار) اللذين هما خاصيتان في النصوص السحرية والشعرية على حد سواء.

إلى جانب هذا كله، فالنص يعكس من بعض وجوهه، بل من كثير منها، فلسفة التفكير لدا الإنسان البسي، وهي فلسفة تقوم أساساً على جملة من الاعتقادات والتصورات الغيبية والممارسات السحرية. فالتوسل للتيار بهذه الطريقة أسلوب بدائي في مواجهة الطبيعة، إذ تروي الأساطير والأخبار كيف كان الأوائل يتوجهون إلى الناحية التي يرون أنها تهدد بالعواصف والأمطار، بكلمات سحرية ونداءات توسلية يعتقدون أنها ستوقف العاصفة وتغير اتجاه الطبيعة.

/ 62