يعد الرثاء من أكثر الأشكال الشعرية ارتباطاً بالموروث الشعبي لما يتميز به من خصائص شفهية كشدة الاهتمام بالقافية والتجنيس السجعي والترديد والترصيع بأنواعه. وربما خير مثال نقدمه على هذا الارتباط بعض قصائد الخنساء التي لا يستبعد أن تكون منحدرة من الشعر الشعبي الترنيمي الذي يتميز بجرسه ونغمه أكثر من تميزه بأفكاره ودلالاته. فعندما تقول الخنساء:
يمكن للدارس أن يلاحظ في هذا المقطع شيئين أساسيين:
أولاً: ابتعاد الشاعرة عن الأصوات الصاخبة والمتنافرة واعتمادها على الحروف المهموسة، المتقاربة والأصوات المتماثلة، وأيضاً اعتمادها على التكرار والحوار وقوة التخييل العاطفي، وهي السمات نفسها التي تميز الشعر الشعبي في مجال العديد والرثاء.
ثانياً: اعتماد الخنساء على الجمل القصيرة والتقسيم المتساوي أو المتجانس مما يساعد على ترديد الصوت في تكرار بطيء، وكأن الشاعرة كانت تهذي بقصائدها زمناً قبل أن ترويها شعراً.
وما يقال عن الخنساء يقال أيضاً عن المهلهل في رثاء أخيه، وابنة عم النعمان بن بشير في رثاء زوجها، مما يدل على أن أشعارهم أو على الأقل بعض قصائدهم أعدت خصيصاً لطقوس الموت كالنواح والتّفجّع وغيرهما مما يندرج ضمن الاحتفالات الجنائزية التي كانت تقوم على الأراجيز ذات الموضوعات الشعبية التي يناح بها على القتلى والموتى بهدف طمأنتهم في قبورهم وإبعاد الأرواح الشريرة عنهم. فالنياحة والبكاء وحلق الشعر وغيرها من الطقوس التي أشار إليها شعر الرثاء في مواطن كثيرة، كفكرة الثأر والخلود والانتقال من مكان إلى آخر، كلها معتقدات ورموز لبقايا أساطير شعبية عرفها العرب في جاهليتهم.