اعلم أن بين أقاليم العرب غير المغرب بادية ذات مياه وغدران وآبار وعيون وتلال ورمال وقرى ونخيل، قليلة الجبال، كثيرة العرب، مخيفة السبل خفية الطرق، طيبة الهواء ردية الماء ليس بها بحيرة ولا نهر إلا الأزرق، ولا مدينة إلا تيماء. ومن الناس من يعدها من الجزيرة وليست منها ومنهم من يجزئها على الأقاليم ومنهم من يجعلها من الشام. وقد رأينا نحن أن نفرزها ونفرد صورتها لأن أحداً من أهل الأقاليم الثلاثة عشر لا طريق له إلى مكة في البر إلا فيها ولا غنى له عن معرفتها. وأيضاً فإن فيها مناهج لا تعرف ومياهاً قد تجهل وفي ذكرها فوائد لا تحصى وأجر وحسبة لا تخفى وقد سافرت فيها غير مرة ومسحتها يميناً وشمالاً وشرقاً وغرباً وتفحصت عن طرقها وسألت عن مياهها وتبحرت في معرفتها حتى حزت الكثير من أسبابها وعرفت معظم طرقها. وهذه صورتها وبالله التوفيق.
وقد جعلناها من ويلة إلى عبادان ثم إلى بالس مقوسة وقسمناها اثني عشرطريقاً، تسع طولاً يؤدين إلى مكة وثلاث عرضاً يؤدين إلى الشام، وبها طريق آخر لقرح يؤدي إليها من البصرة ثم إلى مصر. فأولها طريق مصر ثم طريق الرملة ثم طريق الشراة ثم طريق تبوك ثم طريق وبير ثم طريق بطن السر ثم طريق الرحبة ثم طريق هيت ثم طريق الكوفة ثم طريق القادسية ثم طريق واسط ثم طريق وادي القرى ثم طريق البصره، وهذه الطرق على الترتيب ووصفها على التفريق.
فأما طريق مصر تأخذ من البويب إلى بندقة مرحلة ثم إلى عجرود مرحلة ثم إلى المدينة مرحلة ثم إلى الكرسي مرحلة ثم إلى الحفر مرحلة ثم إلى المنزل مرحلة ثم إلى ويلة مرحلة. وأما طريق الرملة فتأخذ من السكرية إلى التليل مرحلتين ثم من التليل إلى الغمر مرحلتين ثم إلى ويلة مرحلتين. وأما طريق الشراة فإن من صغر إلى ويلة 4 مراحل وهاتان الطريقان وإن كانا في الشام فإن السلوك في بادية وحشة وتمس هذه البادية المذكورة. وأما طريق تبوك فتأخذ من عمان إلى معان منهلين ثم إلى تبوك مثلهما ثم إلى تيماء أربعاً ثم إلى وادي القرى أربعاً. وأماطريق وبير فتأخذ من عمان إلى وبير3 مناهل ثم إلى الأجولي4 مراحل ثم إلى ثجر منهلين ثم إلى تيماء3 مناهل. وأما طريق بطن السر فتأخذ من عمان إلى العونيد نهارين ثم إلى المحدثة نصف نهارثم إلى النبك مثله ثم إلى ماء نهاراً ثم إلى الجربى نهاراً ثم إلى عرفجا نهاراً ونصفاًَ ثم إلى مخري ثلاثاً ثم إلى تيماء أربعاً. وهذه المحجات الثلاث طرق العرب إلى مكة، وفيها كان بريد ملوك بني أمية وقت كونهم بدمشق، واياها سلكت جيوش العمرين وقت فتح الشام وهن قريبات آمنات أصحابها بنو كلاب ويصحبهم كثير من أهل الشام يجتمعون في عمان وقد سلكتها غير مرةٍ. وأما طريق القادسية فتأخذ من القادسية إلى المغيثة17 ميلاً ثم إلى القرعاء22 ميلاً ثم إلى واقصة 24 ميلاً ثم إلى العقبة 29 ميلاً ثم إلى القاع 24 ميلاً ثم إلى زبالة 24 ميلاً ثم إلى الشقوق 21 ميلاً ثم إلى البطان 29 ميلاً، ثم إلى الثعلبية 29 ميلاً ثم إلى الخزيمية32 ميلاً ثم إلى أجفر24 ميلاً ثم إلى فيد36 ميلاً. وأما طريق واسط فلم اسلكها إلا أنها تلقي الجادة بالثعلبية. وأما طريق البصرة فتأخذ من البصرة إلى الحفير18 ميلاً ثم إلى الرحيل28 ميلاً ثم إلى الشجي27 ميلاً ثم إلى حفر أبي موسى26 ثم إلى ماوية32 ميلاً ثم إلى ذات العشر29 ميلاً ثم إلى الينسوعة23 ميلاً ثم إلى السمينة29 ثم إلى القريتين22 ثم إلى النباج23. فهذه طرق العراق إلى مكة وهذه التسع محجات في الطول. وأما طريق الكوفة فتأخذ من الكوفة إلى الرهيمة12 ميلاً ثم إلى النحيت نهارين ثم إلى القراى مثلهما ثم إلى الخنفس نهاراً ثم إلى الحشية مثله ثم إلى الغريفة مثله ثم إلى قراكر مثله ثم إلى الأزرق مثله ثم إلى عمان مثله الجميع مرحلة خفافاً. وأما طريق هيت فتأخذ من هيت، وأما طريق الرحبة فتأخذ من الرحبة إلى..،وهذه المحجات الثلاث في العرض ولها بنيات تخرج إلى اذرعات وغيرها. وأما طريق وادي القرى فيقال أنها تخرج على المنهب خلف فيد ومن المنهب إلى وادي القرى5 ليال ومنه الى تيماء4 ومنه إلى تبوك7 ومنه إلى وادي طيء ليلتان. ومن البصرة إلى الكوفة على تخوم هذه البادية 10 مرحل ثقال. وأكثرما ذكرنا من المنازل مياه وغدران.
وهذا وصف هذه البادية ومياهها: أعلم إنها بادية واسعة كثيرة العرب فيها نبت يقال له الفث على عمل الخردل ينبت من نفسه فيجمعونه إلى الغدران ثم يبلونه بالماء فيتفتح عن ذلك الحب ثم يطحنونه ويخبزونه ويتقوتون به. ويكثرون أكل لحم اليربوع والحيات ويقطعون الطريق ويؤون الغريب ويهدون الضال ويخفرون القوافل. وعلى الجملة لا يمكن أن يعبر أحد هذا الطريق إلا بخفير أو قوة وترى الحاج مع قوتهم يهتكون وتؤخذ اباعرهم وخزائنهم. وتخوم هذه البادية تأخذ من ويلة على مدائن قوم لوط وتصعد إلى مآب ثم على تخوم عمان واذرعات ورساتيق دمشق وتدمر وسلمية وأطراف حمص إلى بالس ثم ترجع إلى الفرات وتعطف على الرقة والرحبة والدالية إلى هيت والأنبار ثم على الحيرة والقادسية ومغارب البطائح ثم على سواد البصرة إلى عبادان ومنهم من أضاف الشراة إليها وادخل مدنها فيها وهذا أصح. وليس في، هذه البادية مدينة إلا تيماء وهي مدينة قديمة واسعة البقعة كثيرة النخيل هائلة البساتين غزيرة الماء مع خفة عجيبة وعين مليحة تخرج في شباك حديد إلى بركة ثم يتفرق في البساتين ولهم آبار حلوة وهي في سهلة إلا أن أكثرها خرابات، الجامع فيها والعمارات حول السوق وكل تمورها جيدة وفي أهلها شره، لا عالم بها يرجع إليه ولا حاكم يعول عليه ورأيت خطيبهم بقالاً وحاكمهم نعالاً مع تعصب عظيم ودروع داودية يلبسونها في الفتن. والمنازل بين مصر وويلة يسقى لها بالسواقي. والغمرماء وحشة وقربه رمل يحفر فيخرج عليهم منه ماء حلو كثير. وبير آبار حلوة في بقعة حهنة نيرة. والأجولي خزاه الله ماء يتورم من شرب منه وربما قضى نحبه. وثجر ماء غير طيب ولا كثير الغدران. والعونيد غديران قريبان ماؤهما كريه في وسط الرملة. المحدثة قناة حلوة قد حدت بحجارة سود. النبك غديران أحدهما أحلى من الآخر المحجة بينهما وثم نخيلات، بعده غدير واحد في غيضة. ودخل حلو غير غزير قد انسيت اسمه. والجربى غدير أو اثنان منتن الماء بين دغل وطرفاء. وعرفجا في موضع حسن نزيه غديران حلوان. ومخري قبحه الله من ماء مالح يطلق الناس والأباعر غديران في أرض سوداء وأشتق اسمه من الاسهال وسواءً شربت منه أو خبزت أو طبخت الأمر واحد. والمغيثة خربة بها بئر واحدة. والقرعاء لها عدة آبار لا ينتفع بها. واقصة بها حصن عامر وآبار حلوة وبركة عظيمة ينبع فيها الماء. والعقبة بها آبار بعيدة جداً ومواضع قد خربت. والقاع موضع قد خرب وقد كان عامراً حسناً آهلاً بها بئر. وزبالة حصن عامر وآبار عجيبة في الصخر وعدة آبار صغار وربما أودع بها الحاج من ازوادهم ويقصدها عرب كثير بالأباعر والحشيش وغير ذلك وفيها فرج للحاج. والبطان بها آبار معطلة ومواضع خربة. والثعلبية ثلث الطريق عامرة كثيرة البرك يسقى لها بالسواقي وفي الحصن سكان والبئر عذيبي. وقبر العبادي في أول هذا المنهل عليه رجم عظيم وهذه مواضع رمال هبير. والخزيمية بها برك معطلة وآبار لا ينتفع بها. فيد مدينة صغيرة ذات حصنين وبها حمام وبركة بأبواب حديد وآثارات، لعضد الدولة يوجد بها كل خير وبها يودع الحاج ازوادهم وثم ثقات وبها عيون وآبار وبرك عذيبية، وبالبعد ماء حلو وهي من مدن انحجاز لا محالة ولكن أوصلنا إليها طريق القادسية لأن الحاجة إلى ذلك ماسة.
فإن قال قائل أنت رجل قد عملت في السياحة بيقين وعلم وعرفت أيضاً طرق هذه البادية ومواضع المياه فيها فما تقول في الحج على التوكل والخروج بلا زاد. قيل له: يحكى عن سفيان بن عيينة أنه قال رجلان إذا استفتياك فقو عزمهما فإنهما يسألانك عن ضعف: أعزب يريد التزويج ومريد يسأل عن الحج بلا زاد. وحكي لي عن بعض الزهاد ببلدنا في وقتي أنه خرج في هذه البادية بلا زاد فلما تمت له ثلاثة أيام جاع قال فعثرت بشيء لين فنظرت فإذا برقاقة ملفوفة على خبيص حار. وأما أنا فخرجت من بعض السواحل عند العصر وأنا صائم وعزمت على الحج بلا زاد فلما وصلت إلى عاقر صليت المغرب وانفتلت إلى زاوية الجامع اصلي، وكنت لا أفطر كل ليلة إلا بعد الوتر، وصليت العشاء فلما انصرفوا اتاني المؤذن بخبز وقطين وجرة ماء، وقد كنت نويت أن لا أحمل معي ركوة ولا كوزاً وقلت الذي يرزق الطعام هويبعث بالماء أيضاً، فتعشيت أطيب عشاء من حيث لم احتسب، فلما صليت الغداة ركبت الطريق إلى السكرية فلما صليت العشاء اتاني رجل برغيف رستاقي وكوز ماء، فأكلت وشربت، وسرت من الغد إلى أن بلغت رأس الزاوية فدفعت ما كان علي من ثياب إلى بعض الطوافين وأخذت منهم مدرعة شعر ونعلاً خلقاً ومنديلاً رثاً، وسرت إلى العصروأنا لا أطمع في عشاء فتراءى لي حصن فقصدته فلما دخلت الباب إذا ثم رجل من بيت المقدس فعانقني ورحب بي وجعل يذكر لأهل الحصن محلي، فحمل إلي صنوف الطعام والدثار فهربت منهم في السحر وسرت،إلى بعد العصر فإذا قوم من المغرب فامسكوني وقالوا أنت جاسوس، فلما صليت بهم المغرب اعتذروا إلي واضافوني، ثم خرجت من الغد أسير إلى أن بلغت الكسيفة فلم أر بها دياراً فإذا بخمس فوارس قد اقبلوا فساقوني كرهاً إلى موضع لهم وأسافوني، فلما رأيت أني كل ليلة في دعوة وإن الله يردني إلى خلف قصدت بلدي وحججت في تلك السنة بالزاد والراحلة.
تم الجزء الأول ويليه الجزء الثاني في أقاليم العجم أوله إقليم المشرق