الحمد لله الذي جعل القرآن العظيم مفتاح آلائه ، ومصباح قلوب أوليائه ، وربيعهم الذي يهيم به كل منهم في رياض برحائه أحمده على توالي نعمائه ، وأشكره على تتابع كرم لا أمد لانتهائه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة تقضي لقائلها باعتلائه ، ويعدها المؤمن جنةً عند لقائه ، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله أرسله بكتاب أوضحه ، فوعته القلوب على اشتباه آيه ، وشرع شرحه فاتسع به مجال الحق حين ضاق بالباطل متسع فنائه ، ودين أوضحه فأشرقت نجومه إشراق البدر في أفق سمائه ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ، ما أتى الليل بظلامه ،وولى النهار بضيائه . ورضي الله عن السادة الأتقياء ، ومشايخ الإقتداء ، ونجوم الاهتداء ، خير الأمة وأهل الأداء ، ما أشرق معهد تلاوة بضيائه ، وأنار كوكب عباده بلألائه .وبعد فإن أولى العلوم ذكرا وفكرا ، وأشرفها منزلة وقدرا ، وأعظمها ذخرا وفخرا ، كلام من خلق من الماء بشرا ، فجعله نسبا وصهرا ، فهو العلم الذي لا يخشى معه جهالة ، ولا يغشى به ضلالة ، وإن أولى ما قدم من علومه معرفة تجويده ، وإقامة ألفاظه . وقد سئل علي - رضي الله عنه - عن معنى قوله تعالى ورتل القرآن ترتيلا ، فقال : الترتيل تجويد الحروف ، ومعرفة الوقوف . وسيأتي الكلام على هذه الآية . ولما رأيت الناشئين من قراء هذا الزمان وكثيرا من منتهيهم قد غفلوا عن تجويد ألفاظهم ، وأهملوا تصفيتها من كدره ، وتخليصها من درنه ، رأيت الحاجة داعية إلى تأليف مختصر أبتكر فيه مقالا يهز عطف الفاتر ، ويضمن غرض الماهر ،ويسعف أمل الراغب ، ويؤنس وسادة العالم ، أذكر فيه علوما جليلة ، تتعلق بالقرآن العظيم ، يحتاج القارئ والمقرئ إليها ، ومباحث دقيقه ، ومسائل غريبة ، وأقوالا عجيبة ، لم أر أحدا ذكرها ، ولا نبه عليها ، وسميته ( كتاب التمهيد في علم التجويد ) . جعله الله خالصا لوجهه الكريم ، ونفع به إنه السميع العليم . وجعلته عشرة أبواب :
الباب الأول : أذكر فيه صفة قراءة أهل زماننا ، وأتبعه بفصل بالحض على ما نحن بسببه .
الباب الثاني : في معنى التجويد و التحقيق و الترتيل ، وفيه فصول .
الباب الثالث : في أصول القراءة الدائرة على اختلاف القراءات.
الباب الرابع : في ذكر معنى اللحن وأقسامه و الحض على اجتنابه وفيه فصلان .
الباب الخامس :في ذكر ألفات الوصل و القطع .
لباب السادس : في الكلام على الحروف و الحركات .
الباب السابع : في ذكر ألقاب الحروف وعللها .
الباب الثامن : في ذكر مخارج الحروف مجملة و الكلام على كل حرف بما يختص به من التجويد وغيره .
الباب التاسع : في أحكام النون الساكنة و التنوين ، ثم أتبعه بالمد و القصر .
الباب العاشر : في ذكر الوقف و الابتداء ، ثم أتبعه بالكلام على حكم المشدد ومراتبه ، و أحببت أن أختم الكتاب بفصل أذكر فيه الضاد و الظاء ووقوعهما في القرآن .
إن مما ابتدع الناس في قراءة القران أصوات الغناء ، وهي التي أخبر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنها ستكون بعده، ونهى عنها ويقال إن أول ما غني به من القرآن قوله عز وجل أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر ، نقلوا ذلك من تغنيهم بقول الشاعر
أما القطاة فإني سوف أنعتها نعتًا يوافق عندي بعض ما فيها
وقد قال رسول الله في هؤلاء : مفتونه قلوبهم وقلوب من يعجبهم شأنهم .
وابتدعوا أيضاً شيئاً سموه الترقيص ، وهو أن يروم السكت على الساكن ثم ينفر مع الحركة في عدو وهرولة .