وما يلفت النظر هنا أنّ الحاتمي يخاطب المتنبي خطاب السيد للمسود، والقاضي للمتهم، ومن عجب أنّ المتنبي سرعان ما ينصاع لما يقول، ويسلّم بما يتهمه به، ففي صدر الشاهد يعنف الحاتمي أبا الطيب إلى درجة التوبيخ في قوله "أهكذا يؤبن مثلها"، ولم يملك المتنبي رداً سوى أنه يذكر أبياتاً من القصيدة كأنّما يريد أن تشفع لـه عند الحاتمي، الذي لا يلبث أن يوجه لـه صفعة أقوى من السابقة حين بيّن أن ما يدعيه من معنى مخترع هو مسروق من قول الصنوبري أو ابن الرومي. وفي نهاية هذه المقابلة يوجه الحاتمي للمتنبي ملاحظات هي أشبه بملاحظات الأستاذ إلى تلميذ مقصر من تلامذته، مشيراً إلى ضرورة تخليه عن اغتراره بشعره إذ ليس لـه بميزان نقد الحاتمي سوى البيت الجيد الذي يساق ضمن جملة من الأبيات الرديئة السخيفة.
وبغض النظر عما لاحظه الحاتمي من وجود الشبه بين شعر المتنبي الآنف وشعر كل من الصنوبري وابن الرومي، إذ القضية بمجملها تحتمل الجدل ولا سيما إذا عولجت من منظور ما هو معدود في السّرق، فإنّ المحاورة التي عقدها بينه وبين المتنبي تكاد تكون ضرباً من الخيال، لأنّ صوته كان مهيمناً ورأيه كان نافذاً وكلمته لا ترد، والمتنبي قد ظهر من خلال ذلك عاجزاً عن الرد، وهذا في واقع الأمر بعيد عن حقيقة أبي الطيب.
وتجدر الإشارة إلى أنّ الحاتمي نحا نحو الصاحب بن عباد في الانعطاف بقضية السرقات الشعرية إلى موضوع آخر هو أدخل في نقد المعاني، يقول مخاطباً المتنبي: "ومما ذهبت إليه هذا المذهب:
وهذا كلام جار على غير مناسبة؛ لأنّ الثريا ليست من قبس الشيب والهرم، ولا هما من قبسها، وكان وجه الكلام أن تقول: أنا الثريا سفوراً وعلواً، وذان السهى خفاءً وخبواً، أو أن تقول: أنا الشباب وذان الشيب والهرم. ومن غث الكلام ومستكرهه قولك:
مما يدل على خلل واضح في منهج هذين الرجلين، فموضوع السرقات أمر، وموضوع فساد المعاني وابتذالها أمر آخر، وتفسير ذلك أن المسألة لا تعدو كونها تتبعاً لسقطات المتنبي ليس غير.
لقد بدا الحاتمي من خلال هذه الرسالة ناقماً على المتنبي، مدفوعاً للنيل منه، وقد عبّر عن ذلك صراحة في مقدمة كتابه ولا سيما في قوله: "نهدت لـه متبعاً عَواره"، إذْ إنّه استجاب لدعوة المهلبي الذي حرّض الأدباء على تتبع سقطات المتنبي كما يقول صاحب بغية الطلب: "ومشاركة الحاتمي في إدامة حل نظمه في رسائله، بعد مقالته التي عملها فيه محرضاً عليه ومتنادراً به كنوادر المخنثين، كما حمل مثله أبا محمد المهلبي مستوزر بختيار بن معز الدولة إلى إغراء سفهاء بغداد عليه ومعاملته بالسخف الذي أعرض بوجهه عنه وعنهم". لقد كان الحاتمي كالصاحب مدفوعاً لتتبع عوار المتنبي كما قال صراحة في فاتحة رسالته، ولم يجد من عوار الرجل سوى الوقوف على نقد معانيه الشعرية، وتقييد دلالاتها في ضوء فهمه، والمشكلة أن فهمه كان يستهدف تبيان ما هو سيئ أو ساقط من المعاني، ولعل العجيب أن يكون التركيز كله على المعاني وعلى الألفاظ دون المواقف والموضوعات، من أجل ذلك كانت جهوده منصبة على الشواهد المفردة أو الكلمات التي جاءت في معاريض الأسلوب عامة، مما جعل زوايا النظر مقصورة على شواهد مفردة زعم القارئ أنها مستوحاة من الشعراء الآخرين، والواقع أن مثل هذه القراءة تفتقر إلى مسوغات كثيرة قبل الأخذ بها، أهم تلك المسوغات أن المتنبي لم يكن في أشعاره قد استأنس بمعاني غيره بمعزل عن التجارب التي عاشها بالفعل، ومن ثم فإن المعاني عامة لها صفة الإطلاق، مثل أن يكون المعنى ذا صبغة ذهنية في الأساس، وحين يتناوله الشاعر يثيره أو ينقله من حيز المحدود إلى فضاء واسع، ومن هنا لم يعد البحث النقدي يهتم بالمعاني المجردة التي تكون في الذهن أولية أو مصوغة في قوالب ما، لأن تلك المعاني كما تصورها النقاد منذ القدم تدور في طباع الناس، وليس هناك فضل لمن يبعثها أو يستعملها، إنما الفضل لمن أثارها ونجح في وضعها في سياقات ونظوم خاصة، وعلى هذا الأساس يتراجع البحث الذي يقف عند حدود سرقة المعنى، لأن المعنى لم