مذاهب الأدبیة لدی الغرب

عبدالرزاق الأصفر

نسخه متنی -صفحه : 104/ 85
نمايش فراداده

وقد عجّل بانطفاء الدادائية سأمُ الناس منها؛ فقد أيقنوا بأنها حركة فارغة عدميّة، تدور حول نفسها، وتصرخ في مكانها دون أن تفعل شيئاً لتغيير الواقع، وإذا كان لابدّ للكاتب من وجهة نظرٍ شخصيّة يقول من خلالها شيئاً، يفضي منه إلى منفذ الخلاص، فإن نتاج هذه الحركة لا يتعدى التعبير عن السأم والقرف والتشاؤم واللاّهدف واللاّجدوى. لقد رفضت الدين وزعزعت العقائد والقيم ولم تحلَّ مكانها شيئاً آخر، فواجهت الإفلاس الروحي، وتركت الإنسان الغربيّ حائراً تجاه مصيره.

أما من الناحية الفنيّة فقد هبطوا إلى حمأة العبثية والإغراب الفارغ فاخترعوا مثلاً الشعر الصوتيّ الذي كانوا يلقونه في بعض اجتماعاتهم، وهو مجرد أصوات خالية من الكلمات والمعاني كقولهم:

غاجي بيري بيمبا لولا لوفي كادوري...

أما المسرح لديهم فقد زاول كل تصرف يبهر ويشعر بالحيرة والذعر والعبثية والإبهام واستعملوا فيه الشتائم والألفاظ البذيئة.. وقد قال تزارا مرة: "أنتم لا تفهمون مانعمل؛ حسناً يا أصدقائي، ونحن أيضاً لانفهمه....!"

وأخيراً تعبت الدادائية وهدّمت نفسها؛ فهي حركة جديدة، وفي رأيهم أن كل جديد مايلبث أن يشيخ ويصبح مؤسّسياً ويحمل فناءه في ذاته. وتعب الناس منها فانصرفوا عنها وأهملوها، ورجع بعض أفرادها إلى نفوسهم فأعادوا حساباتهم، فانشق عنها بروتون وأبو لينير وانصرف بعض أفرادها إلى السياسة، مثل الشاعر آراغون. ومن أقوال بروتون مؤسس السّريالية: "إن الدادائية لاتعني شيئاً" ويصرّح بيكابيا بأن الدادائية قد انغلقت على نفسها. وهكذا تلاشت وحلت مكانها السريالية؛ ولكن اتجاهها الساخط والرافض بقي ماثلاً في الأدب يعبّر عن نفسه بأشكال ومذاهب مختلفة مثل مجموعة الشبان الغاضبين التي ظهرت في بريطانيا وحركة السريالية وحركات الحداثة، ومؤلفات كنغسلي، وحركات الشباب الفوضوية التي ظهرت في أواخر الستينيات.

السُّرياليّة Le Surrealisme

1- السُّرياليّة والعالم الباطن:

تعني كلمة السّريالية في اللغة الفرنسية مذهبَ ماوراء الواقع. والواقعُ ماهو موجود؛ سواءٌ في عالم المادّة أم الحسِّ أو الوعي؛ أي مايدركه الإنسان مباشرة في العالم الخارجي أو مايشعُر به ويعيه في عالمه النفسي. والسّرياليّة لاتهمل هذا الواقع، ولا تنكره ولكنها لاتثق به ولا تعوّل عليه. فهو في رأي بروتون زعيم السريالية "معادٍ لكلّ ارتقاء فكريّ وخُلُقي" ولذلك فهم يبحثون عن واقع خفيّ يقبع في أعماق النفس دون أن يشعر الإنسان بوجوده وقد تكوّن درسا في الأعماق منذ زمن الطفولة، أو ربما في الأجيال السابقة. إنه واقعٌ موجود، ولكنْ في عالم اللاَّشعور أو اللاوعي، وهو يؤثر في شخصيتنا وسلوكنا وتصرفنا ودوافعنا دون أنْ نعي آلية هذا التأثير، ويظهر بين الحين والآخر حين تنعدم رقابة الشعور في أشكال مختلفة كالأحلام النوميّة وأحلام اليقظة وهذيانات السَّكْر أو التخدير أو الحمّى وزلاّت اللسان والأخطاء غير المقصودة، والميل أو عدم الميل نحو شخص من الأشخاص أو شيءٍ من الأشياء، وفي التنويم المغناطيسي والأمراض النفسية والمخاوف التي لانجد لها مبرّراً معقولاً والنزوات والجرائم الغامضة التفسير....

هذا هو عالم ما وراء الواقع. إنّه جزءٌ من الذات. وهو موجود ولكنه غير مرئيّ ولا ملاحظ، كالوجه الآخر للقمر.. ويرى العالم السويسري تيودور فلورنوا "أن الذات الواعية لاتؤلف إلاّ جزءاً يسيراً من الكيان الفرديّ؛ بل هي تغوص في لجج الذات اللاواعية التي تلوح في بعض الأحيان بشكل وَمَضاتٍ وتجليات روحية"".

وقد كان العالمُ الباطنيّ معروفاً منذ العصور السابقة، ولكنّ الذي انكب على دراسته تجريبياً، وأوضحَ معالمه، ووضع نظرياته هو الطبيب النمساوي فرويد Freud (1873-1930) الذي توصّل من خلال تجاربه وملاحظاته ومعالجاته النفسية إلى وضع منهجٍ في "التحليل النفسيّ" يرمي إلى تفسير كثير من الأمراض النفسية والانحرافات السلوكيّة، ويبحث عن العقد النفسيّة القديمة المترسّبة في أعماق اللاشعور، التي تعمل في ظلام اللاّوعي بمنزلة المنبع والدافع لكثير من الرّغبات والميول وضروب السلوك...