وقد قيل في الشعر إنه يرفع من قدر الوضيع الجاهل، مثل ما يضع من قدر الشريف الكامل. وإنه أسنى مروءة السري. و قيل ان الشريف كان يتحاشى قول الشعر، ويمنع أولاده من قوله. لأن قول الشعر مثلبة للرجل الشريف. وقد فسر هذا الزعم بعض العلماء بقوله: "ان الشعر لجلالته يرفع من قدر الخامل إذا مدح به، مثل ما يضع من قدر الشريف إذا اتخذه مكسباً، كالذي يؤثر من سقوط النابغة الذبياني بامتداحه النعمان بن المنذر، وتكسبه عنده بالشعر، وقد كان أشراف بني ذبيان، هذا، وإنما امتدح قاهر العرب، وصاحب البؤس والنعيم". مدحه و لم يكن في حاجة اليه، وكان أكله و شربه في صحاف الذهب و الفضة و أوانيه من عطاء الملوك. وبين الشعراء الجاهليين من كان من السادة الأشراف، ولم يجد مع ذلك غضاضة في قوله الشعر، ومن غض من قدره، هو من استجدى بشعره، واتخذ شعره سبباً من أسباب التكسب.
وما يقوله أهل الأخبار عن التكسب بالشعر يمثل و جهة نظرهم حسب، وهو رأي لا أساس له، بسبب ان علمهم بالشعر لا يستند إلى دليل جاهلي مكتوب، وإنما هو من رواية ولدت في الإسلام لاكتها الألسن، و تناولتها الكتب، حتى صارت في حكم الإجماع، يردده الخلف عن السلف إلى هذا اليوم. والشعراء في نظرنا قبل النابغة وبعده بشر، فيهم المترفع وفيهم المستجدي الذليل، الذي لا يبالي أن تمتهن كرامته في سبيل الحصول على المال. وإذا كان في هذا اليوم شعراء يمدحون ويذمون لغاية الكسب والحصول على مغنم، فلم نجعل شعراء ما قبل أيام النابغة الذبياني ملائكة، لا يمدحون إلا الشريف المستحق للمدح، ولا يذمون إلا الحقير الذي يستحق الذم، وما شعراء تلك الأيام، إلا كشعراء أيام، وما بعده، فيهم الشاعر المترفع وفيهم الشاعر المتبذل ن وفيهم من لا يبالي بشعره، يمدح اليوم هذا ن ثم لا يبالي من ذمه بعد حين. و في حقهم جميعاً جاء القرآن والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون. وأنهم يقولون ما لا يفعلون، و نحن نظلم "النابغة" ان جعلناه أول المتكسبين بالشعر، ونخرج عن المنطق ان ذهبنا هذا المذهب.
وذكر ان ممن رفعه الشعر من القدماء: "الحارث بن حلزة"اليشكري، وكان أبرص، فلما أنشد الملك "عمرو بن هند"قصيدته:
وبينه وبين سبعة حجب، فما زال يرفعها حجاباً فحاجباً لحسن ما يسمع من شعره حتى لم يبق بينهما حجاب، ثم أدناه وقربه. وأمثاله ممن رفع من قدرهم الشعر كثير.
ورووا إن الملحق كان ممن الشعر بعد الخمول، وذلك ان الأعشى قدم مكة وتسامع الناس به ن وكانت للملحق امرأة عاقلة، وقيل بل أم، وكان الملحق فقيراً خامل الذكر، ذا بنات، فأشارت عليه، ان يكون اسبق الناس اليه في دعوته ال الضيافة، ليمدحهم، ففعل، فلما أكل الأعشى وشرب، و أخذت منه الكأس، عرف منه انه فقير الحال، وانه ذا عيال، فلما ذهب الأعشى إلى عكاظ أنشد قصيدته:
ثم مدح المحلق، فما اتم القصيدة إلا والناس ينسلون إلى المحلق يهنؤونه ن والاسراف من كل قبيلة يتسابقون اليه جرياً يخطبون بناته، لمكان شعر الأعشى.
هذا ما يرويه أهل الاخبار عن اثر الشعر في الناس ز وروي ان الاعشى انشد قصيدته المذكورة "كسرى"، فقال: "إن كان سهر من غير سقمٍ و لا عشق فهو لص".
"قال أبو عمرو بن العلاء: كان الشاعر في الجاهلية يقدم على الخطيب، لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يُقيد عليهم مآثرهم و يفخم شأنهم، ويهول على عدوهم ومن غزاهم، ويهيب من فرسانهم و يخوف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم. فلما كثر الشعر والشعراء، اتخذوا الشعر مكسبة ورحلوا إلى السوقة، وتسرعوا إلى اعراض الناس، صار الخطيب عندهم فوق الشاعر" "ولقد وضع قول الشعر من قدر النابغة الذبياني، ولو كان في الدهر الأول ما زاده ذلك إلا رفعة البيان".
ويذكر الرواة ان القبيلة كانت إذا نبغ فيها شاعر احتفلت به، وفرحت بنبوغه، واتت القبائل فهنأتها بذلك، وصنعت الأطعمة، واجتمعت النساء يلعبن. بالمزاهر، وتباشروا به لأنه حماية لهم، ولسانهم الذاب عنهم المدافع عن أعراضهم واحسابهم و شرفهم بين الناس.