مفصل فی تاریخ العرب قبل الإسلام

جواد علی

جلد 4 -صفحه : 456/ 213
نمايش فراداده

وبين إغريق وعناصر أعجمية اخرى، بينما كانت الحيرة والانبار وعين التمر وسائر القرى العربية الأخرى، تعلم العربية في مدارسها، وتدرس الخط العربي، وكان رجال الدين فيها، وقد وقفوا على الثقافة اليونانية، ونقلوا كتباً منها إلى السريانية، ولكونهم من النصارى الشرقيين، كانت لغة العلم والدين عندهم السريانية، ولكنهم كانوا يعظون ويعلمون العربية. أما عرب الشام، فقد اقاموا في قرى ومضارب في أطراف بلاد الشام، ومع احتفال سادات غسان بالشعراء، فإن عنايتهم بهم لم تبلغ ميلغ عناية آل لخم بهم، ولعل ذلك بسب أرتباطهم الشديد بالروم، وهيمنة الروم عليهم، بحيث لم يكونوا يسمحون لهم بالتحرك إلا بعد أستشارتهم، ولا أن يتصلوا بالعرب إلا بامر منهم، ولهذا لم يجدوا لهم منفعة تذكر بالإغداق على الشعراء وبإغراء الشعراء بالمجيء اليهم لمدحهم، اللهم إلا إذا جاء الشعراء اليهم، ورموا بأنفسهم ضيوفاً عليهم، أما سادة الحيرة، فقد كانوا أكثر تحرراً في أمورهم وسياستهم من منافسيهم الغساسنة، وكان نفوذ الفرس خفيفاً عليهم، وقد بلغ حكمهم في أيام "أمرئ القيس" "328م" أسوار نجران، وكانت البحرين تابعة للحيرة، يحكمها عامل يعينه ملك الحيرة، كما كان نفوذ الملوك يمتد إلى نجد فاليمامة، فلمملوك الحيرة إذن مصالح سياسية خاصة في منطقة واسعة من جزيرة العرب، ولهم روابط مع سادات القبائل، ونظراً إلى ما للشعر والشعراء من أهمية في التأثير بالرأي العام ، أضطروا إلى مداهنة الشعراء والإغداق عليهم والترحيب بهم، لشراء السنتهم، اما من كان يوشي به عندهم، فيغضبون عليهن أو يجد أنه لم يكافأ على مدحه لهمن وقيامه بشعره بالدعاية لهم، مكأفاة عادلة، فكان يهرب إلى اعداء آل لخم، الغساسنة، ليجد له مأوى عندهم، كما فعل النابغة والملتمس.

ولما كان الغساسنة قد تأثروا بالحياة الحضرية، أكثر من ملوك الحيرة وقد تشربوا بالثقافة البيزنطية، ، فعاشوا في بيوت بدمشق بين الحضر، وبنوا القصور الكبيرة في القرى التابعة لهم، وهي مواضع خصبة، وقد أثثوها على الطريقة الرومية، وكانوا يسمعون الغناء الرومي، وكانت مصالحهم بالأعراب وبجزيرة العرب-كما قلت- غير ذات بال، لم يحفلوا بالشعراء الوافدين عليهم احتفال ملوك الحيرة بهم، ولم يغدقوا إغداق المناذرة عليهم، فصار عدد الشعراء الوافدين عليهم قليلاً إذا قيس بعدد من كان يذهب منهم إلى قصور الحيرة، كما يظهر ذلك جلياً من كتب الأخبار والأدب التي تحدثت عن الشعراء الجاهليين، ولعل هذا الصد عن الشعراء هو الذي حمل "النابغة" على ألا يمكث عند الغساسنة طويلاً، فحمل حمله، وعاد إلى الحيرة معتذراً إلى النعمان عما بدر منه من خطأ، رامياً سبب ما وقع بينهما من قطيعة إلى عمل الوشاة والحساد. ولعله كان أيضاً في جملة العوامل التي جعلت العراق يتقدم على الشام في رواية الشعر الجاهلي وفي نشره، فنحن لا نكاد نعرف رجلاً من اهل الشام الصميميين، قام بالشعر الجاهلي، أو بأمر شعراء العرب في الشام من اهل الجاهلية، كما قام به أهل العراق. ولم تشتهر "دمشق" ولا غيرها من مدن بلاد الشام بما قامت به مدن العراق من جمع الشعر الجاهلي على الرغم من تحمس الأمويين وكلفهم في جمعه وتدوينه.

وقد تعرض العلماء لامر "المدينة" فقالوا: "فأما مدينة الرسول، صلى الله عليه وسلم، فلا نعلم بها إماماً في العربية. قال الاصمعي: أقمت بالمدينة زماناً ما {ايت بها قصيدة واحدة صحيحة إلا مصحفة أو مصنوعة.

وكان بها ابن دأب، يضع الشعر وأحاديث السمر، وكلاماً ينسبه إلى العرب، فسقط وذهب علمه وخفيت روايته، وهو عيسى بن يزيد بن بكر بن دأب، يكنى أبا الوليد، وكان شاعراً وعلمه بالاخبار اكثر. وذكر إن في جملة ما صحفه من الشعر، قول "الحارث بن حلزة" اليشكري:

  • أيها الكاذب المبلـغ عـنـا عبد عمرو وهل بذاك انتهاء

  • عبد عمرو وهل بذاك انتهاء عبد عمرو وهل بذاك انتهاء

وانما هو: عند عمرو.

وأقدم ما لدينا من مدونات الشعر الجاهلي، الاختيارات التي جمعها "حماد" الراوية، المعروفة ب"المعلقات"، والتي عرفت بالسموط. ولعلها الديوان الذي ذكر"ابن النديم" انه أرسله إلى "الوليد بن يزيد بن عبد الملك"، فأستعان به مع ديوان لآخر بعثه اليه "جناد"، ليجمع منهما ومن غيرهما ديوان العرب، وأشعارها، وقد يكون ديواناً آخر أوسع من هذا المجموع.