مقابسات

أبی حیان التوحیدی

نسخه متنی -صفحه : 96/ 9
نمايش فراداده

وينفيه، ولكن إذا عرفه وأشار إليه وكنى عن ربوبته، وأفصح عن آلهيته، لم يجد بداً من هذه الكلمات التي هي ألطف ما في ملكه، وأشرف ما في قوته والمراقى التي هي فوق المرام التي تتراسل بين الخلق في عباراتهم وإشاراتهم لكنها مستعارة في حمى التوحيد وحرم المعرفة، مرفوعة المقادير عما يدنسها ويذيلها، ويفسدها ويحيلها، على عادة أهل اللسان في الأسماء والصفات والحروف والأحداث، وإنما يوحى إلى هذه الغايات بهذه العبارات إيحاء، لأنها تفوت ذرع القول كما تفوت ذرع العقل، وتسبق ظن المقدر كما تسبق وهو المستشعر. وهذا اضطرار اشترك جميع أهل اللغات فيه عند إخبارهم عن آلهتهم، إلا من كانت معرفته من جنس معرفة العامة، واستبصاره من قبيل استبصارها، وعبارته في طريق عبارتها، والعامة لا توحيد لها، ولا حقيقة معها، ولا مبالاة بها. قلت لأبي سليمان في هذا الموضع: حصل لنا في هذه المسألة جوابان: أحدهما زجر عن النظر في هذا العلم، على ما طال الشرح فيه، والآخر على هذه الفائدة التي تكاد الروح تطير معها طرباً عليها، فهل يجوز أن نعتقد فساد أحد الجوابين؟ وهو ما نهى عن التبصر فيه والأخذ بالحظ الوافر منه ليكون الجواب الآخر جامعاً لوجوب الحق؟ فقال: الجوبان صحيحان، وذلك أن ها هنا أنفساً خبيثة، وعقولاً رديئة، ومعارف خسيسة، لا يجوز لأربابها أن ينشقوا ريح الحكمة، أو يتطاولوا إلى غرائب الفلسفة، فالنهي ورد من أجلهم، وهو حق والحال هذه الحال. فأما النفوس التي قوتها الحكمة، وبلغتها العلم، وعدتها الفضائل، وعقدتها الحقائق، وذخرها الخيرات، وعمارتها المكارم، وهمتها المعالي، فإن النهي لم يتوجه إليها، والعيب لم يوقع عليها؛ كيف يكون ذلك وقد بان بما تكرر القول فيه، أن فائدة هذا العلم أجل فائدة، وثمرته أحلى ثمرة، ونتيجته أشرف نتيجة؟ فليكن هذا كله كافا عن سوء الظن، وكافياً لك عما وقع القول فيه وطال بين هؤلاء السادة الجحاجحة في الفهم والعلم والبيان والتصفح. هذا أبقاك الله آخر ما نقلت به من حكاية هذه المقابسة بين هذه الطائفة الفاضلة، وقد اعتذرت إليك في خلالها مراراً من قصور لا حيلة لي فيه، ومن تقصير لم أقصد اختياري إليه، وظني بايثارك لستر القبيح على إخوانك، ونشر الجميل عن أصدقائك جميل، والله كافي وكافيك، ونعم الوكيل.

المقابسة الثالثة في أن الإنسان قد يجمع أخلاقاً متباينة

جرى عند ابن سعدان يوماً كلام في الأخلاق، وحضره جماعة منهم عيسى بن ثقيف الرومي أبو السمح، وغير هؤلاء من مشايخ النصارى، وكانوا متحرمين بالفلسفة ومحبين لأهلها، وكان محصول ذلك: من أراد أن يكسب نفسه هيئة جميلة، وسجية محودة، بتهذيب الأخلاق وتقويمها وتطهير من الأدناس التي نعتريها، تقسمه أمران متباينان: أحدهما عسر ذلك وإباؤه، وتعذره والتواؤه، فيظن لذلك أن الأمر الذي يحاوله معجوز عنه، وأنه غير مقدور عليه، وأن الوصول إليه محال. والآخر استجابة ذلك وانقياده، ومطاوعته وإمكانه، فيظن ذلك أن الغاية التي يؤمها باجتهاده وقصده نظافة بدنه، وتدليك أعضائه، وتقليم أظافره، ونفي القذى عن عينيه، وتسريح شعره، وترجيل جمته، وتنقية أرفاغه وإزالة الدرن عن مغابنه بيده ويد غيره، والقيم في الحمام وغيره، وقدر على ذلك ووجد السبيل إليه سهلاً حتى يخرج من الحمام ناضر البدن نقي الأطراف قد اكتسب صاحبه صباحة ونظافة وضياء وخفة ظاهرة من ثقل ما كان راكبه وملازمه من الوسخ والدرن، فإن أراد بعد ذلك أن يحول فطس أنفه قفاً، وزرقة عينه حوراً، ولفف لسانه استمراراً، أراد المحال، وحاول المعجوز عنه، وقرف بسوء الاختيار، وحكم عليه ببوار السعي وبطلان الاجتهاد. ومع هذا فليس له أن ييأس من إصلاح ما هو مستطاع، ليأسه من إصلاح ما هو غير مستطاع. وليس له أيضاً أن يرجو إصلاح ما ليس بمستطاع، لاقتداره على إصلاح ما هو مستطاع. قطب هذه المذاكرة في الأخلاق، على أن تهذيبها وتطهيرها وردها إلى مقارها، وتسويتها وتعديلها من الصعب المتعسر، والممتنع المتعذر، لكنها مع هذا كله ممكنة من نفسها في أشياء خاصة، وفي مواضع معلومة، بعض الإمكان، وضامنة الاستحالة فيها بعض الضمان، فعلى هذا لا ينبغي أن يطمع في إصلاحها كل الطمع، ولا يقطع الرجاء عن إصلاح الممكن منها كل القطع.