سرد الامثال

لؤی حمزة عباس

نسخه متنی -صفحه : 89/ 4
نمايش فراداده

1ـ أدبيّة النص السردي القديم

شهدت دراسات السرد العربيّة خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين اتساعاً ملحوظاً، تعددت خلاله سبل معاينة النص السردي، وتباينت منطلقاتها والأهداف المؤملة منها، مثلما تباينت إجراءات البحث فيها وهي تسعى للكشف عن بنيات النص الداخلية وملاحظة عناصره، في محاولة لاختبار فاعلية إسهامها في إنتاج النص والوقوف على شخصيته المميّزة التي بقيت لعقود طويلة ماضية أسيرة معاينة خارجية عملت، في أعلى مراحلها على وعي النص الأدبي بوصفه نتاج ضفيرة من المشكلات: تاريخية ونفسية واجتماعية.. وربما عُدَّ في بعض منها نتاج مشكلةٍ منفردة هي منظومة مؤثرات يُشكِّلها ميدان معرفي واحد من ميادين الحياة، وقد خضعت اللغة، لغة النص الأدبي، خلال تلك الدراسات لإرادة البحث وسلطة منهجه فبدت في الكثير منها مطواعة، ليّنة، تلبس مع كل دراسة خصائص منهجها وتتسمُ بسماته بما يكشف، بنظرة شاملة، عن خطورة هذا العنصر وهو يجلي النص الأدبي ويوجّه، بدرجة ما، قراءته لتتخذ في كل مرَّة وجهةً يؤْكَدُ فيها حضورُ وظيفة واحدة للغة أكثر من سواها.

وقد سعت الدراسات السرديّة في طموحاتها للإسهام بإنتاج نظرة معرفية (أبستمولوجية) تتأس على ما تقيمه مع سواها من أسباب التلازم والحوار، إلى إقامة نمط خاص من العلاقة مع (التراث) مستجيبةً لحاجة أساسية في ميدان البحث ومعبرةً عن ضرورة وعي أنموذج الأمة الحضاري عبر مختلف تجلياته خلال لحظاته الزمنية المتباينة، منقسم من جهة علاقتها بنصوص السرد العربي القديم قسمين أساسيين:

توجّه الأول لمعاينة تلك النصوص واستجلاء خصائصها، للوقوف على قدرات الموروث الحكائي العربي وكنوزه الكامنة، وانحرف الثاني تجاه تأصيل النص السردي العربي الحديث، الروائي منه على نحو خاص، في رغبة للبحث عن موقع عربي لرواية عربيّة.

وإذا كان القسمان يتفقان، إلى حد ما، في فهم العمليّة السردي‍ّة، فإن اتفاقهما لا يمتد إلى موقفيهما من التراث، حقل عمله المشترك، مثلما لا يمتد إلى تعاطي إجراءات السرد التي يقتضيها، بالضرورة، موقفاهما وهما يجسدان إشكالية الدراسة عبر الفجوة الحاصلة بين توجيهيهما لمعالجة نص السرد العربي القديم منفرداً أو في ضوء ما تجترحه نصوص السرد العربي الحديث من معطيات صلة معه، لتتغير تبعاً لذلك سبل الكشف عن السرد القديم من كونه مركز معاينة وفحص إلى كونه رديفَ إسناد، مسنداً إليه على الدوام، تتجلى ملامحه على مرآة النص الراهن، وتُضاء قيمُ وجوده بما يمدّ الأخيرَ من القوة والخصوصية.

إن دعوى حداثة النموذج الإبداعي الذي تتكئ عليه (السرديات)، أو إن أدبيّة السرد، بجملة أخرى، بنت العصر الحديث ، حددت من نوعية التعامل مع نصوص السرد القديم، وأعلنت خشيتها من مراودته، مثلما استدعت المجاهرةُ بعدم قدرة أسلاف السرد السابقين على فرض أنماطهم الأوليّة لفرط سذاجتها، واختلاطها بالكتابة التاريخية والتوثيقية فهماً مسبقاً لنوعية النص المدروس، وتطلبت صفاءً في سماته يُخلَّص معه من شبهتي التاريخية والتوثيقية، وبذلك غدت المعاينة السردّية للنص القديم ذات صعوبة مضاعفة وانقسمت مشكلة مواجهته سردياً إلى مشكلتين: نصيّة ومنهجيّة.

إن افتراض وجود نصوص، قديمة أو حديثة، تنطوي على (أدبيّة) خالصة يجرّد اللغة، مادة العمل الأساس، من حيوية وظائفها التي تلتقي جميعاً على سطح النص، مثلما يجرّد السرد من سمات أساسية هي سعته وشموله وتعاليه بجملة بارت، على التاريخ، ويحدد حركته باتجاهي النوع والعصر، ليغدو تاريخ السرد بمثل هذا التصور رصداً لوقائع منتظمة تنتجها نصوص معينة، بينما لا يبدو هذا التاريخ في حقيقته غير "توسيع وتعقيد وقلب لقوانين أساسية قليلة من قوانين البنية الأدبية" ، وهو مالا (ينوجد) على نحو منفرد أو صاف يطل من عليائه على النصوص والأزمان، إنه بجملة أخرى، صورة العصر ومزاجه وقد أنتجتهما شعريّة خاصة لا تنفلت خارج مدار زمنها ولا تترفع عن سياقاتها، بل تشكّل صيرورتها بما تقترحه من صلة مع عصور إنتاجها، من هنا يكون الحديث عن (أدبيّة) النص السردي معقولاً إذا ما أنتظم ضمن محددات العصر والسياق، إن النص يُدرك عندئذ لا بوصفه جزيرة منقطعة، بل بما يؤمِّنه من كشف لإمكانات لغة معينة وهي تُضاء مع كل تآليف جديدة بنور العقل وقدرته، لتسهم الدراسة السردّية في سعيها لمعالجة النص القديم في الانفتاح -على وفق مقتضيات النص المدروس وأهمية موقعه -على مهمة إنتاجه التي تشترك فيها روافد متعددة، إنها تنتج عندئذ معرفتها الفكرية الخاصة أو تهدف في الأقل إلى التوصل إلى مثل تلك المعرفة من خلال إنتاج رؤيتها للنص: في رصد فاعليته، وتبيّن موقعه، وإدراك أهمية ما يثيره من أسئلة وما ينطوي عليه من احتمالات الفهم والتفسير، لتتجلى رؤية الدراسة السرديّة بوصفها "خلاصة الفهم الشامل للفعالية الإبداعيّة في نواحي النسج والبنية والدلالة والوظيفة" .

لا تتوقف هذه الرؤية، كما هو معلوم، على حقل إنتاج النص المدروس أو صفته: قديماً كان أو حديثاً، إنها تملك من خصوصية التوجّه المعرفي ما يدعوها للنظر في مختلف ظواهر النص، والإحاطة، عبر إدراك موقعه، بظروفه الموضوعية، فإن جانباً من (أدبيّة) النص السردي لا يستند إلى ما يميّز عناصره من سمات، أو ما تنجزه هذه العناصر فيما بينها من محاورة والتحام حسب، بل بما يكون بين بنية هذا النص، عبر موقعها وطريقة تشكّلها، وما سواها من صلة إذ "تتجاوز الأدبيّة هيكل البنية كانتظام إلى فاعليتها الخاصة" هذه الفاعلية التي لا تتم بحكم الطبيعة اللسانية -الدلالية لعناصرها بغير شبكة علاقاتها التي تجعل من النص نفسه موقعاً مقترحاً للنظر إلى فاعلية عصره فتسحبه من حضوره اللغوي المجرّد لتدخله في الثقافي الاجتماعي، مستجيبةً لإيعاز السياق ومسهمةً إلى حد بعيد بإنتاجه وإضاءة تغيراته، ليمكن عندئذ التمييز، بحسب تصور د. يمنى العيد، بين الانتظام كمفهوم، وبين حركة الانتظام كفاعلية خاصة للنص، الأول بانشغاله داخل الحدود الهيكلية للبنية، والثاني في انتقال حركة النص (أو فاعليته) إلى مستواه الدلالي لينحرف التحليل في انشغاله بالنص التراثي، والسردي منه على نحو خاص، "من النظر إلى موضوعاته لا بوصفها مجرد مركبات بل بنى" تسهم بتعزيز فهمنا لخصوصية عملها ضمن نمط العلاقات القائمة، مثلما تسهم بإضاءة حقولها وكشف إمكانية نماذجها التي ظلت خارج الدرس والمعاينة.