وعلى الرغم من التقليص الكبير لدور المؤلف في تقنيات السرد الروائي المعاصر إلا أننا نخطئ إذ نتجاوز دور المؤلف الروائي ولو بشكل مجازي، ولقد أعجبني تنظير (أوسبنسكي) الذي أقر بالعلاقة الطبيعية بين وجهة النظر والتأليف الفني للرواية، ومن ثم عندما تناول وجهة النظر انطلق بها وبتنظيراته من مكان طبيعي وهو المؤلف فحدد وجهة النظر من خلال موقع المؤلف نفسه، على الرغم من حديثه المتطور في (بويطيقا التوليف).
وإذا كنا لم نغال -كالآخرين- في تجاهل دور المؤلف مع تقنيات السرد الحديث، وإذا كنا ننكر التواجد الكبير لدور المؤلف مع الروايات الحديثة والمعاصرة بشكولها الفنية المتباينة.. فأين موقع المؤلف بالتحديد؟ وما حجمه الذي نقصده؟
أتصور إذن أنه حجم وسطي لا نبالغ في إقراره كما وجدناه عارفاً بكل شيء ومسيطراً على كل شيء في الرواية التقليدية، وبالقدر نفسه لا أبالغ في إنكار وجوده مع التقنيات الحديثة لأنه موجود ولكن بشكل غير مباشر لا يمكن أن نتجاوزه.
وقناعتي هنا تزداد مع حركية وجهة النظر في الروايات الحديثة وشكولها المتباينة.. ومهما كان الشكل.. فوجهة النظر تتحدد مبدئياً خارج العمل الروائي عندما تكون الفكرة الروائية مجردة ومشبعة بعواطف تزداد اشتعالاً فتدفع المؤلف إلى بلورتها روائياً… وهنا تنتقل وجهة النظر إلى عالم الرواية. ومن ثم تصبح الوسيلة الفنية للأداء الروائي هي المساعدة على تحديدها بعد أن تلبست بشكل فني أبعدها عن المؤلف -ظاهرياً- لتتحول إلى أصوات أو إلى فكرة تتحلق حولها الأصوات.. وعندما يحرص الروائي على إقناعنا بشكله الفني (كالأصوات) -مثلاً- فلا بد أن يحرص على اختفائه حرصاً يزيدنا قناعة بالشكل الفني -كالأصوات- فيتيح فرصاً متكافئة للأصوات دونما أي تأثير نوعي منه كمؤلف، وعندما نشعر بعدم تعاطفه مع صوت ما نزداد قناعة بفنية الاختفاء، لكنه إقرار نوعي بوجوده الحقيقي الخفي الذي نتلمسه في الخفاء من خلال حرصه كروائي على مساحات الحرية المتكافئة للأصوات، وحرصه على عدم الإفصاح المباشر بوجهة نظره لإتاحة الفرصة لوجهات النظر الداخلية، ولو حدث وانحرف الروائي بروايته انحرافاً قصدياً لترجيح فكرة على أخرى فهذا يعني أنه يوسع لوجهة نظر قسرية في مسار غير طبيعي، وفي هذا شر عظيم على آليات السرد الروائي ووجهة النظر.
إذن فمعنى هذا أن التحديد الأدق لصاحب وجهة النظر يتحدد داخل الرواية، ويتوقف على نوعية الأداء الفني الذي اعتمدت عليه الرواية (الراوي/ الأصوات/ الكاميرا/ تيار الوعي/ المسرحة…) إلى آخر الطرق التي تؤدي بها الرواية.
ومن التعسف النظري إذن أن نحدد وجهة النظر وصاحب وجهة النظر بشكل نظري، لأن في هذا الأمر تجاوزاً صريحاً لخصوصية الشكل الفني والبناء الفني للرواية، وهذه سقطة نحسبها جيداً، لأن كثيراً من المنظرين قد وقعوا في شراكها.
وعلى سبيل المثال فتحديد وجهة النظر وصاحبها في رواية (تيار الوعي Strreem of consiousness)، تختلف اختلافاً نوعياً وفنياً عن (رواية الأصوات)، وتحديد وجهة النظر في (تيار الوعي) يرتبط بشكل مباشر بالعقل الداخلي والحياة الداخلية التي تتفجر منها الرؤى، ويعبر الروائي بها عن الأفكار الكامنة في اللاشعور، وقيل هي محاولة لمسرحة عقل ما وهي مسرحة تقلص أيضاً دور الروائي، وفي هذه الحالة يصبح تحديد (وجهة النظر) سهلاً ميسوراً، لأن وجهة النظر تحددت بين الراوي والبطل والتحديد الأدق يكون تبعاً لخصوصية كل تجربة روائية في هذا المجال. وهذا يختلف اختلافاً جوهرياً مع (رواية الأصوات)*.
وبناء على ما سبق يمكن أن نقتنع الآن بأن العمل الروائي الواحد يمكن أن يأتي محملاً بأكثر من وجهة نظر، وهذا ما سماه المنظرون قبلنا بوجهة النظر الخارجية ووجهات النظر الداخلية التي تفرض نفسها لأسباب منها:
-أن هناك شكول الروايات الممسرحة ورواية الأصوات، وهي روايات تمنح شخوصها حرية تعبيرية وتكافؤاً في الرأي مما يجعل الرواية حافلة بوجهات نظر داخلية نتيجة للتعددية الصوتية التي تشعل بدورها نوعاً من التوتر المقصود داخل هذه الروايات فتعكس وجهات النظر التباين الفكري والأيديولوجي والفلسفي داخل مجتمع الرواية.