(وجهة النظر) منطقة غير مأهولة في دراساتنا النقدية العربية المعاصرة، على الرغم من كثرة الدراسات التطبيقية الأوربية التي استعانت بـ (وجهة النظر) في وقت باكر من هذا القرن، ويبدو أن البعض قد اعتقد أن (وجهة النظر) محض اصطلاح، فغابت (وجهة النظر) عن دراساتنا اللهم إلا دراسة قصيرة للدكتورة إنجيل بطرس.. واكتفت فيها بتاريخ (وجهة النظر) في مطلع هذا القرن في الأدب الإنجليزي.. ثم كان تطبيقها مجرد محاولة تفسيرية لإبراز إمكانية استخدام (وجهة النظر) في النقد التطبيقي. وكان علينا أن نتابع تطور (وجهة النظر) في النقد الأوربي بصفة عامة، ولا سيما بعد الدراسات التنظيرية العديدة للخطاب الروائي وبخاصة بعد الستينيات من هذا القرن، ولنرصد بدائل المصطلح، وحجم إفادته للمسار الروائي…
ومن ناحية أخرى فـ (رواية الأصوات العربية) لم تحظ بدراسة نقدية مستقلة تبرز حجم تبعيتها لـ (ديستوفسكي) أو حجم استقلالها وخصوصيتها الإبداعية، وهل كانت الممارسة الإبداعية العربية لرواية الأصوات مجرد بعث ديستوفسكي أو محض تجديد حداثي؟
ومن هنا رأيت أن دراسة (رواية الأصوات العربية) أمر لازب ومهم، إلا أنني اقتصرت في التطبيق على دراسة رواية الأصوات العربية في مصر فقط لكثرة ما وقعت عليه من روايات أصوات في الشام والمغرب العربي والكويت أيضاً… وكانت الروايات المصرية قد بلغت عشر روايات انفردت بالجانب التطبيقي من هذه الدراسة، وتركت الروايات العربية الأخرى لي أو لغيري من الباحثين ليتمم بها ما بدأته في هذا البحث.
وكان من الطبيعي أن أستعين بـ (وجهة النظر) في التطبيق، لأن (وجهة النظر) بشقيها الفني والفكري هي التي ستمكننا من سبر عمق (رواية الأصوات)، ولأن (وجهة النظر) بشقيها تعلن عن التماسك والتناسب بين البعدين الفني والفكري معاً وهو المعيار العلمي القياسي المحقق لـ (القيمة الجمالية) ولاكتشاف الخصوصية البنائية لرواية الأصوات.
ورواية الأصوات لم تعد مشغولة بتأكيد الثوابت القيمية في المجتمع قدر تركيزها على إعادة توزيع الأضواء على النبرات الصوتية المتباينة بين القيم الثابتة والأخرى المتحولة في المجتمع، وهو أمر استتبع طريقة بنائية خاصة تتأبى على البطولة الفردية والنهاية المحددة…
ولما كانت (رواية الأصوات) تسعى لإثبات قدرة غيْرية للروائي، فكانت هي الأنسب للتطبيق مع (وجهة النظر)، لأن القدرة الغيْرية لاختفاء الروائي كانت الأساس الأول لطموحات (وجهة النظر) منذ مطلع هذا القرن، والتي تطورت مع تنظيرات وضعية الراوي والسارد في الدراسات النقدية الحديثة. وجاءت هذه الدراسة في قسمين، أما القسم الأول فجاء مسبوقاً بهذه المقدمة، وعني القسم الأول بالجانب التنظيري بأبعاده (لوجهة النظر) ثم بالخصوصية البنائية (لرواية الأصوات).
أما القسم الأخير فعني بالجانب التطبيقي، واعتمد على روايات -مصادر الدراسة- الأصوات العربية في مصر، وكانت الاستعانة بـ (وجهة النظر)، ولذلك بدأنا بالروائي ثم الراوي فالمروي له وأخيراً الأصوات…
وهذه الدراسة تتطلع إلى هدفين، أما الأول فهو مقدم للنقاد من أجل التعريف بالخصوصية البنائية لرواية الأصوات لمتابعتها نقدياً، ثم للإغراء باستخدام (وجهة النظر) في النقد التطبيقي، لأنها الأقدر على سبر العمق الفني والفكري للعمل الروائي بصفة عامة. أما الطموح الآخر فهو موجه لإغراء المبدعين العرب برواية الأصوات وهذه الدراسة تلقي الأضواء الأولى على البناء الفني لرواية الأصوات العربية في مصر لأن عدد روايات الأصوات قليل، ولذلك نطمع في المزيد من هذه النوعية الروائية مع استثمار إمكانات التحديث، لتطوير مسار الرواية العربية المعاصرة، ولتعزيز تميزها الإبداعي، قبل أن تغرق الرواية العربية في البنى السائبة أو الغموض المفرط، فنشكو مما يشكو منه الشعر والشعراء العرب الآن من القطيعة القائمة بين المنتوج الشعري وبين المتلقين الذين يتقلص عددهم وينقص الآن.
والله من وراء القصد.
د. محمد نجيب التلاوي
20/2/1996م