كان الفن البدائي جمعياً بطبيعته الفطرية، ولذلك انحسرت وجهة النظر في رؤية أحادية تعبر عن بعد جمعي في غيبة تنوع الفلسفات، وكبت الحريات وغيبة الأيديولوجيات. وصورة التعاون الجمعي من أجل الخير المناهض للشر هي الصورة الأليفة في الحكايات القديمة كالليالي العربية… وكأن هذا التعاون نوع من تناصر الضعفاء، والإنسان البدائي كان في حاجة ماسة إليه إزاء قوى الطبيعة المهددة له بالجوع أو العطش أو القتل… وكان المسافرون قد تعاطفوا مع التاجر في حكاية الليالي (التاجر والجني).. وكل مسافر يقدم خدمة للجني ليفدي جزءاً من التاجر. حتى تخلص التاجر (الإنسان الطيب) من قبضة الجني (الشرير) بتعاون جمعي فطري جاء دونما ترتيب استجابة لفطرة إنسانية خيرة… وتمددت هذه الصورة في الروايات التقليدية الأولى، فكان البطل الخير يصارع قوى الشر، ودائماً يتوج بانتصاراتٍ مبهرة ترضي فضول القارئ.. وتحقق أمنياته الخيالية… وكانت صورة الراوي العالم بكل شيء هي الأنسب لشكل البطل الأوحد في الخط المستقيم لسرد الأحداث في روايتي الشخصية والحدث -حسب التقسيمات القديمة-لأدوين موير. وكان الروائي يتبنى وجهة نظر أحادية تنتصر للخير دائماً في الروايات التقليدية الأولى التي تتحرك ببطء شديد لاسيما في ظل الارستقراطية والطبقية الأوربية. ولو أننا اتفقنا على أن التعبير الفني ممارسة أيديولوجية بطريقة فنية ارتبطت بوضعية حضارية معينة، لأمكننا أن نقدر مدى ارتباط التطور الروائي بالتطور الحضاري، ولأمكننا أن نتصور الدوافع الأساسية التي حمست (هنري جيمس Henary James) لتبنى (وجهة النظر) للعبور بفنية الأداء الروائي خطوة مهمة… ولكن التساؤل الذي يفرض نفسه هنا هو: هل ارتبطت رغبة التجديد للأداء الروائي برغبة شخصية واجتهاد أحادي، أم ارتبطت بوضعية حضارية في مطلع هذا القرن -في أوربا بالتحديد-؟ عندما قال المؤرخون بأن تحول المجتمع الأوربي من الدكتاتورية والطبقية والإقطاع إلى الحرية وبروز الطبقة البرجوازية.. قد أثر بشكل مباشر على تطور فن الرواية بخاصة كانت قناعتنا كبيرة لوجود أدلة عملية كثيرة تبرز حجم ذلك التطور ومدى انفتاح الموضوعات الجديدة التي أثرت العمل الروائي. ويحلو للمؤرخين لـ (وجهة النظر) وللمتحدثين عن رواية (الأصوات) أن يعيدوا التفسير للتطور الروائي عبر وجهة النظر وعبر رواية الأصوات من خلال وضعية حضارية وأيديولوجية محددة، فيقولون: بأنه في ظل السلطات الدكتاتورية كان الراوي العارف بكل شيء، والمتحكم في كل شيء في الرواية قد ترادف عن قصد أو غير قصد مع الوضعية الطبقية والدكتاتورية التي أعلنت الصوت الأوحد في الحكم… ولما زالت الطبقية والدكتاتورية، تنسم الأوربيون نسائم الحرية، وكان من الطبيعي أن تتقلص سلطة الراوي العارف بكل شيء لتتناسب مع الوضع الجديد المفعم بالحرية والديمقراطية التي تسمح بالرأي والرأي الآخر، ومن ثم فالبحث عن وسائل فنية بديلة لإخفاء الراوي/ المؤلف المتسلط كانت رغبة جماعية فرضتها طبيعة التطور، فإذا بالبطولة الفردية تختفي، وتستبدل بالأصوات أو البطولة الجمعية أو بطولة الموقف.. وذاب صوت الروائي العارف بكل شيء تحت وطأة الموقف أو البطولة الجمعية أو تفاعل الأصوات، وسخونتها. وتكرر (يمنى العيد) هذا التفسير بصوغ آخر فتقول "إن القول السردي يكتسب فنية بديمقراطيته، أي بانفتاح موقع الراوي على أصوات الشخصيات بما فيهم صوت السامع الضمني، فيترك لهم حرية التعبير الخاص بهم، ويقدم لهم منطوقاتهم المختلفة والمتفاوتة والمتناقضة، وبذلك يكشف الفني عن طابع سياسي عميق قوامه حرية النطق والتعبير. وإذا كنت أتفق مع التفسير الأول القائل بأثر ازدهار الطبقة البرجوازية على تطور فن الرواية بصفة عامة، إلا أنني لا أتفق مع التفسير الآخر الذي يربط نشأة (وجهة النظر) و (رواية الأصوات) بوضعية أيديولوجية وتاريخية معينة لأكثر من سبب… وأول هذه الأسباب أن فكرة التمرد على الراوي العارف بكل شيء فكرة قديمة جديدة ولم يستنبتها (هنري جيمس) للمرة الأولى فلقد سبق إليها- منذ أرسطو* وأفلاطون في عرض الحديث النظري لتأسيس الفروق بين الأنواع الأدبية لا سيما بين الدراما والملحمة -آنذاك- فتعرضا لفكرة التمييز بين منطوق الراوي ومنطوق الأصوات، وقد امتدح أرسطو اختفاء الراوي بسبب الأصوات. على الرغم من الانتماء إلى المجتمع الطبقي الحاد أنذاك. وثاني هذه الأسباب أن (هنري جيمس) قد سبقته -تاريخياً- مساحة كبيرة للحرية كانت كافية لاستنبات (وجهة النظر) في فترة مبكرة قبله. وثالث هذه الأسباب أن (ديستوفسكي) مبدع رواية الأصوات قد اختفى وأتاح لأصواته الظهور ولم يكن في مجتمع يسمح بمسافة الحرية اللازمة لمثل هذا التنفس الفني الحر ومع محاذير قبضة الالتزام التي استنبتت في المجتمع الروسي. ورابع هذه الأسباب يتصل بثالثها وهو ظهور البدايات الرائدة لرواية الأصوات العربية في مصر في فترة الستينيات (حكم الفرد) حيث كتب (فتحي غانم) رباعيته (الرجل الذي فقد ظله)، وكتب نجيب محفوظ روايته (ميرامار) ورواية الأصوات نموذج مثالي لتنفس الحرية واستثمارها للرأي والرأي الآخر. إذن فربط (وجهة النظر) بوضعية تاريخية محددة أمر فيه مراجعة وربط حرية الراوي وحجم اختفائه بمنظور اختفاء السلطة الدكتاتورية حكم فيه كثير من الإسقاط وقليل من الإنصاف لا سيما في غيبة الأدلة الفنية، بل إن الممارسة الإبداعية للفن الروائي عند (ديستوفسكي) وعند بعض الروائيين العرب تثبت المعنى المضاد. ومعنى ذلك أن (وجهة النظر) و (رواية الأصوات) لا تمثل رغبة جماعية وأيديولوجية بصفة عامة، وإنما تمثل رغبة لتطوير فني ارتفع هنا فوق الارتباط المباشر بوضعية تاريخية محددة، أو الارتباط بفترة حضارية بعينها، لأن الفكرة وجدت عند أرسطو ثم تبناها (فلوبير 1850) ونفذها بطريقة نظرية وعملية (هنري جيمس)*. إذن فهذا التطوير في الأداء الروائي يمثل رغبة وطموحاً فنياً ارتفع فوق التقسيمات الجغرافية والحدود التاريخية، وجاء هذا الطموح مع (وجهة النظر) لهدف محدد وهو محاولة تجاوز سلطة المؤلف/ الراوي لتطوير السرد الروائي وإذا كان (هنري جيمس) قد بلور المصطلح في بداية هذا القرن فهذا لا يعني أن السنوات السابقة عليه كانت خالية من الحرية أو أن السنوات التالية بعده بقليل قد تميزت فيها ممارسات الحرية.