لما كان الزمان والمكان ركيزتي الإدراك العقلاني فكان من الطبيعي أن يستعين الروائي بهما، وجاء تمثلها في المسيرة الروائية مختلفاً فهناك روايات تبرز المكان وتأثيره أكثر من إبرازها للزمان، وهناك روايات تعنى بالزمان أكثر من عنايتها بالمكان وكان ذلك في الروايات التقليدية. ولما تطورت المسيرة الروائية بدأت استخدامات متنوعة للزمان (اللازمان- الزمن النفسي- الزمن الفني- الزمن المنطقي الواقعي). إلا أن للزمان والمكان في رواية الأصوات طبيعة خاصة باستخدام خاص قد يتشابه مع الرواية التقليدية التي تعنى بالزمن المنطقي لكن تتمايز رواية الأصوات في أن استخدامها للزمان والمكان لأنه استخدام لا يتمثل بطبيعة واحدة وبامتداد واحد بمعنى أن الزمان يعزز مفردات المكان والعكس، وإنما نجد الزمان والمكان في رواية الأصوات أشبه بالسالب والموجب، وعلى الرغم من تنافرهما إلا أنهما معاً يوجدان الصراع الروائي. في رواية الأصوات نلاحظ أن الظرفية المكانية محددة، والظرفية الزمانية محددة ويجمعهما ترهين سردي ساعد بدوره على إظهار الدور الإنتاجي للتباين الصوتي وساعد على المواجهة بين الأصوات عامة ثم المواجهة داخل الصوت الواحد. وذلك لأن المكان جاء محملاً بالتعبير عن رصيد ثوابت النشأة البيئية والأخلاقية للصوت.. والزمان جاء ممثلاً لعالم المتغيرات إذن فنحن بالزمان والمكان أمام (سالب وموجب) والترهين السردي أعلن المواجهة، والمواجهة تبدأ عادة من داخل الصوت (أنا) واستخدام الصوت لـ(أنا) لم يعن الانغلاق على دواخل الذات بل إن (أنا) السردية للصوت ترتبط بالواقع الخارجي أكثر من ارتباطها بالعمق الداخلي، وهو الأمر الذي ساعد على المواجهة بين الأصوات وقلل بدوره فرصة الاسترجاع والتنبؤ والمنولوج الداخلي لأي صوت روائي في رواية الأصوات، حتى أن المنولوجات المحدودة جاءت صدى للواقع، وتفسيراً له، أو فرصة لإعادة تعامل الصوت مع الواقع الخارجي، ومن ثم لم تقبع الأنا داخل ذاتها كما في روايات (تيار الوعي) -مثلاً-. في رواية (الرجل الذي فقد ظله) أصبحت المواجهة الحقيقية لكل صوت ثم بين الأصوات ممثلة في السالب والموجب أو الزمان والمكان، فإذا بالبعد المكاني يصل مداه حد تشكيل الأصوات الروائية بسلوك ملؤه الحد القيمي والخلقي وجاء مدعوماً بالعادات والتقاليد، فـ (يوسف) من بيئة متوسطة، ومبروكة خادمة ريفية وسامية من أسرة منحلة ومارست التمثيل، إذن فكل صوت جاء صدى لنشأته، وكان ذلك مقدمة لتنوع رؤيوي، وكان يمكن أن يكون الأمر عادياً لو أن كل صوت التزم بقدراته وعبر عن طبقته، إلا أن الروائي سلط البعد التأثيري للزمان الذي أحدث مع هذا البعد المكاني تبدلاً وتغيراً، فخضعت الأصوات لنظام كوني، واستجابت لرغبة التغير والتبدل (فمبروكة) الخادمة أنستها خدمتها في القصر طبقتها الفقيرة في الريف، وطمعت في الانتساب إلى الطبقة العليا فراودت (مدحت بك) عن نفسه، إلا أن (الأم) اكتشفت الأمر وطردتها فإذا (بمبروكة) تحاول اللحاق بالطبقة المتوسطة، ففشلت مع (يوسف)، لكنها نجحت مع أبيه (عبد الحميد أفندي) فتزوجها، وعندما مات زوجها عادت إلى طبقتها وتبخرت أحلامها لتبدأ رحلة معاناة وشقاء من نوع آخر وقد أهانتها الضرورة العمياء.. ومن ثم كان الانتماء المكاني يطاردها، ولم تفلح متغيرات الزمن من انتزاعها من البعد المكاني.. (النشأة). وكان (يوسف) في الرواية نفسها يمثل صورة أخرى فهو من طبقة متوسطة الأسرة رجل عصامي تشبع بالمثل والمبادئ وبفعل المكان تشبث بمعطيات طبقته.. ولما فقد ظله امتلكه الزمن وأعلن انقياده له عله يتجاوز طبقته، فاستجاب لمتغيرات الزمان وأصبح الصراع داخله بين المكان بقيمه وثوابته الخلقية التي نشأ عليها وبين الزمان بمتغيراته المتلاحقة فانتصر الزمان، وتحول (يوسف) من النقيض إلى النقيض بسبب فقدان الظل مارس مظاهر هذا التغير الذي يساوي كل الحماقات الوصولية التي ارتكبها حتى صعد إلى رئاسة التحرير... وبفعل التذكر مع (أنا يوسف) نلتقي بمفعولاته التي أساء إليها (مبروكة/ سامية/ شوقي/ سعيد/ ناجي...) وقد قدم اعترافاته بالإساءة لهم عن وعي تام ينكر فعله وينتقد نفسه، ويحاول أن يبحث داخل (يوسف) رئيس التحرير عن (يوسف) الطفل.. وكأنه يبحث عن النسبي داخل المطلق عندما انتصر التحول السلبي بفعل الزمن (التغير) على الثبات الإيجابي (المكان بقيمه ومثالياته الخلقية التي نشأ عليها).