إذا كان (هنري جيمس) قد نظر لـ (وجهة النظر) فأثر بهذا المصطلح في تطوير الفن الروائي ووسائل التقنية السردية - فإن (باختين) قد لعب دوراً مماثلاً عندما اكتشف الخصوصية النوعية للبناء الفني لروايات (ديستويفسكي). ولا شك في أن ما وقع عليه (باختين) يعد اكتشافاً نقدياً مهد لانتشار رواية الأصوات بين المبدعين المتميزين بخاصة. وكان (باختين) قد جاء في وقت تزاحم فيه النقاد على قصعة الجانب الفكري والأيديولوجي لروايات (ديستوفسكي) حتى وصلت بعض النقدات بنقادها حد الإسقاط، ليجعلوا من وجهة نظرهم الإسقاطية عقائد كاملة الأبعاد التنظيرية فالتطبيقية، وغالباً ما مثلت بعض هذه النقدات تدليلاً سيئاً جاء على حساب البناء الفني المتجاهل في تلك النقدات وعندما قال (ديستوفسكي): كن شخصية personality، فإنه لم يقصد الطبع المتميز Charoctar، ولم يقصد النمط Type، ولم يقصد المزاج Temperament الذي يكون مادة تصويرية في الأدب، وإنما قصد الشخصية المتمتعة بحريتها الداخلية - الاستثنائية- وبنزعتها الاستقلالية عن الوسط الخارجي، ولذلك قال (باختين): إن ديستوفسكي شأنه شأن جوته لا يخلق عبيداً مسخت شخصياتهم مثلما فعل- زيوس- بل أناساً أحراراً مؤهلين للوقوف جنباً إلى جنب مع مبدعهم، قادرين على ألا يتفقوا معه، بل وحتى على أن يثوروا في وجهه.. إن كثرة الأصوات، وأشكال الوعي المستقلة وغير الممتزجة ببعضها، وتعددية الأصوات Polyphone الأصلية للشخصيات الكاملة القيمة - كل ذلك- يعد بحق الخاصية الأساسية لروايات ديستويفسكي". وقبل التوقف مع الخصوصية البنائية لرواية الأصوات، يجدو بنا أن نتعرف على تاريخ نشأتها، فهل "ديستوفسكي" الرائد هو صاحب الأولوية الأولية أم أن هناك من سبقه إلى فكرة الأصوات؟ إن الدافع لطرح هذا التساؤل هو مجرد قناعة شخصية وقياس علمي يرفض أن نسترخي دائماً مع الرائد الأول والأوحد في مجال الإبداع الأدبي بصفة عامة، لأنه من المفترض أن هناك بعض الإرهاصات المساعدة ثم المحاولات غير الناضجة فالمحاولات الناضجة مع الرائد ثم المحاولات اللاحقة. أما عن تصوري للإرهاصات فهي قديمة قدم أرسطو الذي امتدح "هوميروس" عندما كان لا يدخل الشاعر أو الراوي في عرض الأحداث إلا نادراً ليترك فرصة الظهور والعرض للشخصيات. وهو تحديد وتحجيم مبكر لدور المؤلف والراوي الذي أصبح سمة من أساسيات إنجاح رواية الأصوات الآن. ثم يعزز (سقراط) هذا الإرهاص الباكر لفكرة الأصوات فيما عرف باسم: "الحوار السقراطي" الذي تميز بأسلوبين: السينكريزا Sinkriza والأناكريزا Anakriza. أما الأول (السينكريزا) فكان يقصد به تقابل وجهات النظر حول مسألة بعينها، وأما الأخرى (الأناكريزا) فقصد بها القدرة على أن تثار كلمة المناقش أو تستفز، وكان يلعب (سقراط) هذا الدور الاستفزازي نقصد (استفزاز الكلمة بالكلمة)، ولذلك كان محاورو (سقراط) أصحاب أيديولوجيات - رغماً عنهم- وكانت فكرة الحوار السقراطي تقترن بصورة حاملها. ونفهم من هذا الإرهاص الاجتماع بأفكار متباينة متحاورة حول موقف أو قضية بعينها.. وهي نفسها الفكرة الأساسية التي تتحلق حولها الأصوات الروائية في رواية الأصوات. واعتقد أن للمسرح دوره الفعال في هذا التوجه الفني الباكر عند (أرسطو) و(سقراط).