في الهيكل البنائي الأخير لروايات الأصوات تتجاوز التجارب الروائية الافتراضات التنظيرية لتعيد ظهور الراوي في رواية الأصوات والحقيقة أن الراوي في رواية الأصوات يختلف عنه في الروايات التقليدية لأنه في الروايات التقليدية يقوم بالمهام جميعها وكأنه شاهد على الأحداث وعليم بكل شيء، إلا أن دور الراوي مع الأصوات لم يكتمل على هذا النحو الذي رأيناه في الروايات التقليدية، لأن الأصوات تنتزع منه بعض المهام، ولذلك تباين دور الراوي في روايات الأصوات وقد جاء بطريقتين، كل طريقة تنظم تعدد الرواة (الراوي + الأصوات). في الصورة الأولي يقوم الراوي بدفع الأحداث وتنظيم ظهور الأصوات، إلا أنه لايتداخل مع الأصوات تداخلاً مسيطراً- كما في الروايات التقليدية- لأنه يعطي للأصوات قدراً كبيراً من الاستقلالية لتتحرك بين ذاتها وخارجها حركة إيجابية تبني الأحداث الروائية وتعبر بردود أفعالها عن وجهة نظرها. ومن ثم فظهور الراوي هنا ظهوراً مرحلياً متقطعاً بسبب زحام الأصوات له، ويمكن أن نتخيل الصورة الأولى لموقع الراوي في رواية الأصوات على هذا النحو الذي نجده في رواية (تحريك القلب) لعبده جبير. ونلاحظ هنا هندسة البناء المحكم فالراوي يظهر بانتظام ليرصد حركة السقوط وإرهاصاته، والأصوات تظهر بانتظام وكل صوت في موقعه وترتيب ظهوره يبرز رد فعله إزاء مراحل السقوط. ص1 ص2 ص3 ص4 ص5 ص6 ص7 الــــــــــــــــــــــــــــــراوي الــــــــــــــــــــــــــــــراوي الــــــــــــــــــــــــــــــراوي الأصوات معاً.. ونشعر هنا كأن الراوي والأصوات يتنازعون السيطرة في الرواية، لكن كلاً منهما لايستغني عن الآخر في مثل هذا التنفيذ الهيكلي، لأن الراوي واصف للفعل (فعل السقوط) والأصوات تجسد (رد الفعل للسقوط)، بالفعل ورد الفعل يقوم الهيكل البنائي للرواية هنا. ويصبح البيت القديم بدلالاته هو الفكرة التي أوجدت الراوي ليصف، وأوجدت الأصوات لتنفعل وتبرز وجهات نظرها.. وفي رواية (المسافات) (لإبراهيم عبد المجيد) يقدم الأصوات من خلال الراوي، الأمر الذي يعلي فيه من شأن الراوي على حساب الأصوات، فوجود الراوي هنا أقوى من وجوده في (تحريك القلب) وهو أمر انعكس على حرية الأصوات واستقلاليتها ومن ثم إنتاجها لوجهة النظر. والراوي هنا يقدم أحداثه الروائية عبر ست دفقات روائية ترصد المراحل لزمنية الحلم لـ (علي) وهي (الاحتفال/ التحولات/ خروج/ الصحراء/ المدينة/ القيامة) وكان من الطبيعي أن يتحكم الراوي في ظهور أصواته تبعاً لحاجاته إليهم في كل مرحلة، ثم إن الراوي لايعطي الصوت فرصة التعبير بالأنا، لأنه يتولى عنه الحكي بـ (هو) وهو أمر زاد من إضعاف الأصوات، وربما أن الحلم من ناحية وجهل الأصوات وضعفها من ناحية أخرى قد ساعد على السيطرة البارزة للراوي هنا، وهو أمر لم يساعد على إبراز تعدد التبئير الداخلي المنتج لوجهات النظر. والهيكل البنائي للرواية كأنه هرم مقلوب (شكل رقم 1) تتسع قاعدته في (الاحتفال) لأصوات سكان (البيوت العشرين) كفصل صفري يحدد الملامح الأساسية للفكرة الروائية وتنتهي الرواية بصوت (علي) صاحب الحلم ومصدره الأساسي ليفيق في النهاية من الحلم على الواقع الذي لم يسمح لأحجاره المقذوفة في الهواء بالسفر، لأنها تسقط أمامه، بينما تذوب (سعاد) وتتلاشى حتى تتبخر وتختفي.. لتعلن باختفائها عن نهاية الحلم المفعم بالرؤى الأسطورية والخيالات والجنس والجهل..