لقد جاءت رواية الأصوات العربية في مصر لتمثل بعثاً جديداً لخصوصية روائية ذات بناء فني خاص يتمايز عن الروايات المنولوجية والأنواع الأخرى التي تتوحد فيها الرؤية بفعل الروائي أو الراوي. أما في الأصوات فتحتفظ الرواية بالتنوع الصوتي وتبرز وجهات النظر مستقلة حادة لا تسعى إلى حلول وسطية تلفيقية. ولا إلى رؤية أحادية تذيب التنافرات الكائنة في واقعنا المعاش. جاءت رواية الأصوات العربية لتنتزع الرواية العربية من المسار التقليدي. ولتضفي عليها بعض الملامح الحداثية الجديدة بقدر لا يغرقها في مظاهر حداثية سائبة البنية، ولا يلقي بها في أتون غموض مفرط. لأنها رواية تتبنى وجهات النظر في قضايا حياتية وسياسية واجتماعية لم تحسم بعد….. وهي رواية ألغت فكرة البطولة المركزية لأنها انفتحت على أصوات، ولم تحجم برؤية أحادية مغلقة مهما كانت أهميتها، ولأنها رواية تأبى الرؤية الأحادية فكان من الطبيعي ألا نقع على نهاية تتوج الأحداث بمنظور أحادي، ومن ثم جاءت بنهايات مفتوحة محملة بوجهات النظر المختلفة دونما مصالحة أو توسط، ولذلك فالمروي له والقارئ ـ دائماً ـ مع الأصوات في حالة انتظار، لأن الخلافات الفكرية بين الأصوات مازالت قائمة ما تدفقت الحياة. وهذا البناء الخاص للأصوات تطلب الروائي المتميز القادر على تجاوز ذاته وعلى التعمق في الآخر والآخرين بقدر من الغيرية والحيادية "وهي درجة إبداعية صعبة، ولذلك وجدنا عدداً قليلاً من الروائيين هم الذين أقدموا على كتابة رواية الأصوات. وعلى الرغم من توافر الحيادية والغيرية لبناء الأصوات إلا أنه من الطبيعي أن تكون هناك منطلقات فكرية حفزت الروائيين على كتابة رواية الأصوات، فضلاً عن اختيار الموضوع وتحديده. أما المحفز الفني فهو معروف لأن رواية الأصوات خطوة فنية متطورة يتجاوز الروائي ـ فيها ـ ذاته وربما يتجاوز الراوي ليصل ـ رأساً ـ إلى الأصوات وليمنحها حرية واستقلالية تتولد معها التناقضات (اللاتجانس). وأما المحفز الموضوعي فيمكن فهمه من الموضوع المختار، (ففتحي غانم) في (الرجل الذي فقد ظله) يحرص على إبراز دور الانتهازية في فترة التحول السياسي الكبير بعد قيام الثورة المصرية مباشرة. و(نجيب محفوظ) في (ميرامار) حرص بأصواته على إبراز ورصد ردود الأفعال المختلفة تجاه الثورة. و(القعيد) شغل في روايتيه بأمر التزييف الذي تمارسه القوى السياسية والسلطوية على الشعب. و(الغيطاني) شغلته فكرة الخداع الذي يمارسه الحاكم والذي ينبئ عن إرهاصات لهزائم متوقعة قد مهدت لها السلطة بممارساتها وخداعها. ويأتي (عبده جبير) و(سليمان فياض) ليعبرا عن التحول الحضاري وأثره على الشعب وكل منهما بطريقته الخاصة في روايتهما (تحريك القلب/أصوات). على الرغم من توافر هذه الدوافع إلا أن الجديد في الأصوات أن الكتاب لم يمارسوا فاعلية الموحد لوجهة نظر واحدة غالباً ماكانت هي وجهة نظر الروائي في الرواية التقليدية… وإنما كان حرصهم الأساسي على إبراز وجهات النظر المتباينة إزاء هذا الطرح الفكري لتلك القضايا. ولكي تتحقق هذه الغاية كان لابد من التنفيذ عبر أصوات، وهذه الأصوات لابد أن تكون ناضجة وقوية ومتباينة، لأنه بالنضج والقوة والتباين يتحقق (اللاتجانس) الذي هو سبيل إنجاح رواية الأصوات بصفة أساسية… والسؤال الأولي الآن هل كانت الأصوات في روايات الأصوات المصرية قد تمتعت جميعها بمفهوم (اللاتجانس) أم لا؟ وما النتيجة المترتبة على ذلك؟