لو أننا بحثنا عن الروائي في روايته بالطريقة التقليدية فإننا لن نقع عليه في رواية الأصوات بسهولة توازي ظهوره في الرواية التقليدية، لأن الروائي في الرواية التقليدية يكتسب تعبيراً مباشراً من خلال وضعية الالتباس الكائنة بشكل مباشر أو غير مباشر بين الروائي والراوي أو بين الروائي والبطل.. لأن الروائي التقليدي يجعل رؤيته الفكرية هي المحور الذي تتشاكل حوله الأحداث، ويقوم المؤلف بانتقاء المادة الروائية ثم يعمل على توحيدها لتتويج جهوده بنبرة أيديولوجية أحادية تتوج منطلقه الفكري وتعززه إذن فالروائي التقليدي يتحمس وينتصر لوجهة نظره وقناعاته ويشكل ذلك في أحداث روايته. أما الأمر مع كاتب رواية الأصوات فهو مختلف، لأننا لا نقع على الروائي بسهولة في روايته فهو يختفي، وهو الاختفاء المحمود الذي بحث عنه وتمناه (هنري جيمس) ثم عند المنظرين - من بعده- لتقنيات السرد الروائي، بل ووصل الأمر بكثير من المنظرين لتقنيات السرد الروائي إلى الدخول في تفصيلات وضعية الراوي، وما ينتج عنه من شكول فنية، وتجاهلوا الروائي تجاهلاً تاماً، ونستثني منهم الروسي (أوسبنسكي) الذي بدأ تنظيراته بدءاً من الروائي، فكان متميزاً بين أقرانه (جيرار جينيت/ بوث/ تودوروف/ فريدمان) وقد وافق (ساندر وبيريوزي) (أوسبنسكي) ورأى أن الكاتب "هو مصدر كل تبئير كيفما كان نوعه، وأنه هو الموظف للراوي والمبئر لغايات محدودة وخاصة. وكان (أوسبنسكي) قد ربط وجهة النظر بالتوليف، وعين وجهة النظر من خلال المواقع التي يشغلها أو يحتلها المؤلف، ومنها ينتج خطابه السردي، ثم حدد أربعة مواقع: (المستوى الأيديولوجي/ المستوى التعبيري/ المستوى الزماني والمكاني/ ثم المستوى السيكولوجي) وفصل القول في مواقع هذه المستويات. واتفق مع (أوسبنسكي) بأن البداية الطبيعية من المؤلف وعلينا ألا ننكر ذلك مغالاة في تفريعات تنظيرية، لأن المؤلف أساسي، فهو إذن موجود في رواية الأصوات أيضاً، ولكن حضوره يختلف عن حضوره في الرواية التقليدية، فالروائي في رواية الأصوات هو الحاضر الغائب - إن صح التعبير- فهو الذي يمنح الأصوات وجودها، وهو الذي ينظم ظهورها وحواراتها، ثم هو حاضر في درجة الغيرية التي يتمتع بها الروائي المتميز فقط بمعنى أنه حاضر بشكل غير مباشر في أصواته، لأن قدرته الغيرية على تقديم أصوات مستقلة يعني أنه تعمق وعيه بدرجة قصوى وصلت به حد (الغيرية) التي عبر بها عن قدراته الفنية في استيعاب وعي (أصواته) المخلقة بخياله التركيبي الخصب. ومع توافر القدرة الإبداعية الغيرية فإن روائي الأصوات يتمتع بقدرته على تجاوز ذاته، ليعبر عن فكر الآخرين، وليحافظ على قيمته الدلالية، وعلى وجهات النظر الجزئية في روايته، ومؤلف الأصوات لا يسعى لانتصارات براقة لفكره، وإلا لتحولت الأصوات الروائية عنده إلى دمى ووسائل لإشهار فكر المؤلف ونظرته الأحادية وهنا سنكون أمام كاتب الرواية التقليدية، وتضيع ملامح التميز الخاصة بكاتب رواية الأصوات. وقد وجدنا كتاب رواية الأصوات العربية في مصر يتقنون دورهم ومهامهم ككتاب لرواية الأصوات، إلا أن بعض الكتاب قد وقعوا في كثير من المحاذير، أذكر منها هنا رواية (يحدث في مصر الآن) ليوسف القعيد، لأن المؤلف في هذه الرواية لم يعبر عن فكرته بشكل مباشر لأنه أعطى فرصة لأصواته الروائية، ولكنه عاد وسعى لتأكيد فكرته - التي لم يعبر عنها مباشرة - بوسائل أخر توثيقية ولا سيما في نهاية الرواية عندما ظهر وكأنه يحاكم أصواته محاكمة غيابية لما صدر عنهم من أفعال وردود أفعال.