وجهة النظر فی روایات الأصوات العربیة

محمد نجیب التلاوی

نسخه متنی -صفحه : 102/ 56
نمايش فراداده

والحقيقة أن الراوي هنا قد أثر بوجوده ومكانه تأثيراً سلبياً على الرواية كرواية الأصوات، فظهوره القوي أضعف الأصوات، وحجم ما أخبر به أكثر من حجم ما أخبرت به الأصوات. ولما تخفف الراوي من الظهور في نهاية الرواية أعطى فرصة لصوتين (إبراهيم/كريمة) إلا أن الصوتين تحركا أفقياً أكثر من حركتهما رأسياً الأمر الذي زاد فيه الوصف وقلل الإخبار واتسع المجال للغة تصويرية مشبعة بظلال رومانسية ومنعطفات صوفية لتساعد على ارتشاف الأحزان وعذابات الحب.

وإذا كان الراوي عند (طه وادي) قد أعطى فرصة للأصوات، فإن الراوي عند (إبراهيم عبد المجيد)، قد سيطر سيطرة كاملة ولم يعط الفرصة للأصوات أن تحكي أو تعبر عن نفسها إلا عبر حوارات قصيرة، وقد غلب المؤلف الراوي في درجة الالتباس هنا. وهذا التحكم المفرط من الراوي يذكرنا بالراوي في الروايات العادية والتقليدية… ولذلك كان وجود هذا النوع في رواية أصوات قد كال لها أسباب الإضعاف ولاسيما أنه كان عارفاً لكل شيء محتكماً في كل شيء فلم يمنح الأصوات استقلاليتها الواجبة، ونستطيع أن نوجز سلبيات وجود الراوي الملتبس في هذه الرواية في الآتي:

ـ أضعف ملامح التميز بين الأصوات لأنه جاء بأصوات متشابهة في الإقامة والجهل والأحلام والأوهام (فزيدان/ أم جابر/وليلى/ زينب/ سميرة…)، أصوات يكرر بعضها بعضاً.

ـ ولم يعط الراوي للصوت فرصة الظهور إلا من خلاله، فهو الذي يحكي عن الصوت بالضمير(هو) وهو أمر لم يسمح لنا بالتغلغل في عمق الأصوات ومن ثم قل المنولوج، وقلت الأحلام الاستشرافية، وألصقنا الراوي بأحداث خارجية قلل من جفافها بالبعد الأسطوري الذي أضفناه على الأحداث.

ـ الأصوات التي قدمها الراوي لم تخلص لذاتها وإنما أدخل في حديثها الأصوات الأخرى، فمثلاً في صوت (سعاد) لم يحدثنا الراوي عن سعاد فقط وإنما أفاض في الحديث عن ليلى وعلى الشيخ مسعود، وهو أمر أساء إلى الصوت ولم يساعد على إبراز وجهة نظر مستقلة. لأنه استثمر الأصوات جميعها لوجهة نظر كلية كانت هي غاية الراوي والروائي وهو أمر أساء إلى رواية الأصوات بشكل مباشر. وجعل الأصوات ضعيفة ومتشابهة فغام التميز وغابت وجهات النظر وانعدمت الرؤى، لأن الأصوات جميعها مسخرة بفعل الراوي المسيطر إلى غاية أحادية، شأنها في ذلك شأن الرواية التقليدية التي تسمح للراوي بأن يمارس فاعلية الموحد فضعفت الأصوات وضعفت بضعفها الرواية، لأن الراوي انتصر لكل النوايا الواعية وللأفكار التي قادته إلى وجهة نظر كلية ذات بعد تأويلي واحد حسمه على حساب الأصوات… وشكل الراوي هنا قد أذاب اللاتجانس بين الأصوات فأذاب قدرات الأصوات لتشابه القدرات الذهنية التي ارتبطت بمكان واحد وظروف واحدة، بل وآمال متشابهة ترادفت في انتظار عودة (قطار الكنسة).

من الملاحظ إذن أن رواية الأصوات تعتمد بالدرجة الأولى على الأصوات الروائية لتتولى بنفسها العرض مستغنية بذلك عن الراوي ذي المنظور الأوحد، لأن الأصوات تعيد الحكي من وجهات نظر متعددة، وروايات الأصوات التي استغنت عن الراوي كانت هي الأنجح كرواية أصوات لأنها احتفظت بقوام اللاتجانس والرؤى المتعددة مثل روايات (أصوات/ الرجل الذي فقد ظله/ الحرب في بر مصر….).

أما روايات الأصوات التي استعانت بالراوي فجاءت في مستويين أما المستوى الأول فسخر الراوي لمتطلبات رواية الأصوات ومن ثم وجدنا الراوي له طبيعة خاصة جداً تختلف عن وضعه في رواية تقليدية وقد وجدنا ثلاثة أمثلة أما الأول فكان في رواية (ميرامار) لنجيب محفوظ حيث أسند مهمة الراوي لصوت من أصواته الروائية فظل الصوت صوتاً منفرداً حفظ للأصوات الأخرى استقلاليتها ورؤاها، وأصبحت مهمة الراوي مفهومة ضمناً من خلال صوت (عامر وجدي)، وليس بطريقة معلنة، الأمر الذي حفظ لرواية الأصوات خصوصيتها البنائية.