والقدرة على الأسلبة والتعددية اللغوية تتحول في الرواية من الدلالة المعجمية إلى فرضية عمل لإدراك الواقع بتناقضاته، والأصوات بتباينها. وفي رواية الأصوات بخاصة ومع اللاتجانس تصبح التعددية اللغوية ضرورة فنية، لأن عدم وجود الأسلبة والتعددية اللغوية كان أمراً مقبولاً-إلى حد بعيد- في الرواية التقليدية التي لم تتحلل من الأحادية القومية والهدف الواحد والغاية الواحدة، لكن الأمر يختلف تماماً مع رواية الأصوات التي لا تسعى لرؤية بل لرؤيات؛ ولا تتوحد في نمط وإنما في أنماط، ولا تنتصر لفكرة وإنما تبقي على جميع الأفكار، ومن هنا أصبح التعدد اللغوي ضرورة تتطلبها بنية الأصوات لاستكمال مفهوم (اللاتجانس) الواجب توافره في رواية الأصوات، ولأن الانعتاق من الشيء مرتبط بلغة الصياغة، والتعبير عن التحول والتطور يستتبعه تعبير لغوي ملائم ألم تر أن تمرد الرواية والروائيين على الواقعية قد بدأ بالتمرد على اللغة الاستدلالية كما فعل (جويس)-على سبيل المثال-.
إذن فلاستكمال (اللاتجانس) كان على روائيي الأصوات أن يستقبلوا في رواياتهم التعددية الصوتية بما يعمقها لا بما يضعفها، لأن القدرة على الأسلبة ستعكس الوضعية الاجتماعية والأيديولوجية، لأن المتكلم في الرواية هو الصوت الذي ينبغي أن يحمل بلزماته التعبيرية ما يعلن به عن انتمائه الطبقي أو توجهه الأيديولوجي وسيكون الصوت متميزاً بقدر ما تحمله صياغته اللغوية من تميز، ولأن الكلمة مع الصوت تنفذ وتؤثر بقدر تعبيرها عن ملكات وتوجهات هذا الصوت الروائي، ولأن هذه الكلمة المعبرة في الرواية هي البديل الحقيقي القائم مقام الحياة، ومن هنا كانت أهمية استكمال اللاتجانس بالتعددية اللغوية للأصوات في رواية الأصوات، لأن هذه الأسلبة القصدية ستساعد على إبراز وجهة نظر الصوت وإقناعنا بها.
وقد تكون الصياغة اللغوية الموحدة مقبولة- إلى حد بعيد- في الرواية المنولوجية أو التقليدية، لأن الكاتب يعلن عن نفسه أو أن الراوي يفرض هيمنته الأسلوبية، في سياق يتوازى مع دور فاعلية الموحد لوجهة نظر أحادية يقوم ببسطها، لكن التوحد الصياغي غير مقبول في الأصوات لأنه من المفترض أن الأصوات مختلفة في توجهاتها الفكرية ومستوياتها الثقافية والطبقية ومن المفارقات المعيبة أن نتجاهل هذه الفروق في الصوغ الأسلوبي للأصوات.
والسؤال الذي يفرض نفسه الآن لماذا تجاهل روائيو الأصوات التعددية اللغوية؟ وهذا التساؤل يفرض نفسه لسببين أولهما أهمية التعدد اللغوي لرواية الأصوات تحقيقاً لسمة (اللاتجانس)، والسبب الآخر أن اختفاء التعددية اللغوية من روايات الأصوات التي نطبق عليها تكاد تمثل 80% وهي نسبة عالية وغير متوقعة، وقد أساءت لهذه الروايات لأن مفهوم (اللاتجانس) لم ينطبق تمام الانطباق على الأصوات المتباينة.
والتفسير المبدئي لارتفاع هذه النسبة غير المرغوب فيها فنياً في رواية الأصوات يعود في بعض الروايات إلى نوعية الأصوات الروائية المشاركة في الرواية، على سبيل المثال نجد أصوات (الزيني بركات) متقاربة المستوى الثقافي والحضاري، فضلاً عن انتمائها لمكان واحد بلزمات لغوية معروفة ولذلك نقبل هنا بعدم التعدد اللغوي أو التمايز بين أصوات مثل (الزيني بركات/ سعيد الجهيني/ زكريا بن راضي/ عمرو بن العدوي) واكتفى الروائي بإحياء لزمات العصر إحياء ناجحاً لكن التقارب بين مستوى الأصوات لم يسمح بالتعددية اللغوية، وهو أمر مقبول في مثل هذه الرواية.
والتقارب الثقافي والطبقي بين الأصوات الروائية كان أحد أبرز أسباب تغييب التعدد اللغوي في روايات أخر مثل (تحريك القلب/ الكهف السحري/ المسافات).