وجهة النظر فی روایات الأصوات العربیة

محمد نجیب التلاوی

نسخه متنی -صفحه : 102/ 81
نمايش فراداده

وفي المقابل نجد أصوات (المحقق والضابط وصديق مصري والوالد) يحاولون الانتصار للشهيد ولأبيه، ولكنهم يفشلون جميعاً، وكاد (المحقق) يحقق نصراً في بر مصر لما بدأ تحقيقاً جاداً ونزيهاً، ولاسيما أن الفقراء والمظلومين استعدوا للاعتراف بالحقيقة وأمر التزييف ضد الإقطاعي، لكن عهد الانفتاح تعاطف مع مراكز القوى فأمر بوقف التحقيق وتهديد المحقق نفسه.

لقد تميز عرض القضية هنا بأنها اعتمدت على أصوات (ذوات) لا على (موضوعات) ومن هنا أصبحنا أمام معالجة غير تقليدية لقضية تناولتها روايات تقليدية من قبل، وهذه المعالجة الجديدة في رواية الأصوات انتزعت من المشابهة الواقعية أصولها وجذورها الفكرية. ولأن الأصوات تمثل رد فعل للتحرك الجمعي بتباين مستوياته وأنماطه السلوكية والمعرفية، فهذا يمنح رواية الأصوات عمقاً بنائياً موازياً لأداء فني متميز تذوب فيه البطولة الفردية أمام الأصوات المتساوية الحقوق (العمدة/ المتعهد/ الصديق/ الضابط..)، وهي أصوات جاءت محملة بوجهات نظر ترفض الاندماج، وتعلن الاستقلال الذي يحفظ لها وجهة نظرها، سواء أكانت مقنعة أو غير مقنعة، وإذا كانت وجهة النظر هي المحصلة النهائية لوعي (الصوت) بالعالم ووعيه بذاته، فإن الوعي الذاتي ليس مجرد منظور اجتماعي ولكنه فكرة فنية مهيمنة على بناء الصوت، ومن ثم فالوعي الذاتي للصوت يمتص الملامح الخارجية ويعايشها أكثر من الانغلاق الذاتي المولد لبعد منولوجي، وهذه ميزة مهمة للأصوات.

ومن الطبيعي في رواية الأصوات أن يتجاوز التركيب السردي للأصوات الطبيعية المنولوجية ويعمد إلى الإخبار المساعد على البناء الرأسي والذي يحتفظ لكل صوت بوجهة نظره.. وفي هذه الرواية تمتعت الأصوات باستقلالية تامة نتيجة لقدرة الروائي الغيرية التي ساعدت على تحقيق وجهات النظر حول القضية المركزية (استشهاد مصري)، وبشكل أعطى فرصة لإحياء الحدث في ترهين سردي، أقام حوارات ومواجهات أزكت الصراع.. وإن كان القهر السلطوي قد أضعف الصراع وأنهاه بشكل يجمع وجهات النظر جميعها لتعلن عن فكرة جمعية سعى الروائي إلى إثباتها وإشاعتها في (بر مصر).

وتأتي رواية (يحدث في مصر الآن) ليعزف القعيد على الوتر نفسه الذي تناوله في رواية (الحرب في بر مصر) فهو يتعقب السلطويين واستثمارهم السيئ لمناصبهم. وكما جعل من (مصري) قضية تحلق حولها الوعي الجمعي الضعيف جعل هنا من (الدبيش عرايس) بؤرة تحلقت حولها الأصوات.. ودائماً يعزف على أن المظلوم سواء أكان (مصري أو الدبيش عرايس) مفقود الهوية، (فالدبيش عرايس) فلاح أجير قوي البنية، ثوري الاتجاه، لكنه فقير... وفقره هو الذي مكن السلطويين منه فقتل.. وعبثاً حاولت الزوجة والرفاق إثبات موته فلم يستطيعوا، لأن طرف الصراع الأقوى وهو المثلث الصوتي (الضابط/ الطبيب/ رئيس مجلس القرية) استطاع أن يطمئن إلى عدم وجود أي سند رسمي يثبت وجود شخصية اسمها (الدبيش عرايس).

وعلى الرغم من انضمام صوت المؤلف إلى الوعي الجمعي الضعيف (الدبيش/ زوجة الدبيش/ صديقه/ الروائي...) إلا أن هذا لم يدفع الظلم الذي وقع. لكن القارئ سيتعاطف معهم بالقدر الذي لن يتعاطف فيه مع الطرف الثاني للصراع، لأن محاولاتهم التلفيقية الممهورة بصيغ رسمية (محاضر/ تقارير/ تحقيقات..) جاءت امتداداً للصيغ السلطوية، ومن ثم فدفاعاتهم عن أنفسهم -كأصوات- غير مقنعة للوعي الداخلي، ولذلك كانت معزولة بفعل ما تحمله من ظلال سلطوية، فجفت من أصواتهم المشاعر الدلالية، وانسحبت من أصواتهم حرارة التعبير ودفء الكلمات. وعلى الرغم من أن القضية جاءت في شكل أصوات إلا أن التدخل الحاد من الروائي قد أذاب وجهات نظر الأصوات التي اختفت تحت وطأة الحضور القوي للروائي الذي وجه أصواته للنطق بوجهة نظره، ثم لم يكتف بهذا ففي نهاية الرواية غلب حماسه فنه فنطق بنزعة خطابية مباشرة قللت من القيمة الفنية لعرض القضية. والحقيقة أن إعادة إنتاج الواجهة الواقعية بفعل المحاكاة المباشرة ليست إلا محاولة متواطئة مع نشاطها الكاذب لأنها لم تف لميراثها الواقعي، ولم تف لخصوصية البناء الروائي الخاص برواية أصوات، لأن الروائي تجاوز الأصوات واستدرجته الخاصية التوثيقية لإعلان نهاية مثلت فعل الإعاقة لأهم خاصية من خواص رواية الأصوات التي تنتهي عادة بوجهات نظر غير محسومة ولأن التفكير الروائي الجديد يتخذ موقفاً ضد كذب التشخيص أي ضد الروائي نفسه الذي يحاول إصلاح وتبرير تدخله الحتمي عن طريق تحولـه إلى معلق أو واعظ ذي وعي مفرط بالأحداث الروائية العليم بها -كما رأينا في هذه الرواية-.