وقبل أن أغادر البعد اللغوي في دراسة النص وقراءته، لا بد من الإشارة إلى قول القائلين:
إن اللغة، بأنماط تعبيرها، ونحوها الخاص، وقوالبها تعوق، بوعي أو دون وعي، عمل الكاتب والمتكلم بل إن بعضهم (فرويد، كلودليفي شتراوس .) يذهب إلى القول بأن اللغة هي التي تتكلم عبر الفرد، حيث يصبح (موضع كلام) أكثر منه متكلماً وهذا ما يزعمه كذلك بعض الشعراء، حين يدعون أن القصيدة تكتب نفسها حيث تمارس اللغة على (الشاعر والكاتب عموماً) سطوة، وسلطة من نوع ما وإذا كنت لا أذهب مع هؤلاء في غلوهم، فلأن ما زعموه ينطبق، أكثر ما ينطبق، على الحالات غير السوية إلا إنني لا أجرؤ على رفض كلامهم رفضاً مطلقاً، ونفيه نفياً قاطعاً ذلك أننا كثيراً ما نرى المتكلم والكاتب يستخدم أنماطاً من القول والتعبير والصور والرموز لا تتمشى مع تجربته الخاصة. ولعل في كلام العميان، مثلاً، دليلاً واضحاً على مدى السلطة التي تمارسها الأنماط المقولية واللغوية على كلام الفرد كما نجد في كلام الأطفال وتعبيراتهم ما يؤكد ذلك أيضاً حيث تمارس اللغة على الفرد سلطة تزداد أو تنقص حسب طبيعة الفرد ومقدرته ونموه ومجمل خبراته ففي حين نرى أفراداً تتكلم اللغة من خلالهم أكثر مما يتكلمون من خلالها، نجد آخرين يمتلكون ناصية اللغة باقتدار ومن طبيعة اللغة الممانعة والعناد والمقاومة رغم أن الظاهر قد يبدو غير ذلك. والفرد، في تعامله مع اللغة يحاول أن يحسم الأمر لصالحه وهذا ما يحدث غالباً، خصوصاً عند منتجي النصوص، إلا أن بعض النقاط، وبعض المناطق في الخطاب الذي ينتجونه تبقى ملتبسة، ويبقى شيء ما بين السطور، لم يستطع الكاتب أو الشاعر التعبير عنه، أو بالأحرى، لم تسمح اللغة بتمريره والإفصاح عنه. أرجو، مرة أخرى، ألا يفهم من كلامي أنني أرجع كل (اللامكتوب) في الخطاب، وكل (اللامفصح عنه) في النص، وكل (المكبوت) إلى عناد اللغة، وإلى ضعف الكاتب (منتج النص) إزاءها لأن ذلك يعود إلى أمور أخرى كثيرة، قد تكون مطلوبة فنياً، كما سيتوضح ذلك لاحقاً وفي كل الحالات، فإن المطلوب من (القراءة/ الكتابة) وضع اليد على هذا اللامكتوب واللامفصح عنه، عن طريق التفسير، كحد أدنى، ثم التأويل، حين ترتقي بالنص إلى مستويات أكثر سمواً، شرط أن يحتمل النص ذلك. النص بين التفسير والتأويل:
التفسير كما جاء في كتاب التعريفات:
"في الأصل هو الكشف والإظهار، وفي الشرع توضيح معنى الآية، وشأنها وقصتها، والسبب الذي نزلت فيه، بلفظ يدل عليه دلالة ظاهرة". فالتفسير لا يعدو كونه فهم النص من خلال فهم مفرداته وجمله، وشرحها بحسب المعنى المعجمي المتعارف عليه ومما يساعد في ذلك:
- مضاهاة النص بنصوص معاصرة له أو سابقة عليه. 2
- استبدال الألفاظ الغريبة (الحوشية) بألفاظ متداولة ومكافئة لها بالمعنى، بعد الرجوع إلى مدلولها في سياق النص، ومدلولها في زمن إنتاج النص. 3
- التمكن من أساليب التعبير المتبعة في عصر إنتاج النص (إن كان النص قديماً)، والتمكن من الأساطير والأسماء والرموز والقصص والحكايات التي يحيل إليها النص. 4
- العودة إلى العلاقات الاجتماعية السائدة في عصر إنتاج النص، وإلى علاقات الإنتاج التي كانت سائدة، ومعرفة مكانة منتج النص وموقعه (الاجتماعي، الاقتصادي، السياسي) ومعرفة المكان الذي عاش فيه إذ لكل ذلك أهمية بالغة في تفسير النص فكلام الحر غير كلام العبد، وكلام القائد غير كلام الجندي، وكلام الأعرابي غير كلام الحضري وهكذا فالتفسير، في أحسن الأحوال، ليس سوى محاولة لفهم المراد (الحقيقي)، من النص، والادعاء، من ثم، بأن هذا المعنى بالذات ما قصده صاحب النص، من خلال عباراته الظاهرة ولا يجرؤ على الذهاب أبعد من ذلك أما التأويل، وحسب ما جاء في كتاب (التعريفات) كذلك:
"في الأصل الترجيع، وفي الشرع صرف اللفظ عن معناه الظاهر، إلى معنى يحتمله، إذا كان المحتمل الذي يراه موافقاً بالكتاب والسنة، مثل قوله تعالى:
"يخرج الحي من الميت"، إن أراد به إخراج الطير من البيضة، كان تفسيراً، وإن أراد المؤمن من الكافر، أو العالم من الجاهل، كان تأويلاً". وعلى العموم فإن التفسير هو الإخبار عن أفراد آحاد الجملة (أي الألفاظ والمفردات) أما التأويل فهو الإخبار عن معنى الكلام. وقيل:
"التفسير إفراد ما انتظمه ظاهر التنزيل، والتأويل الإخبار بغرض المتكلم بكلامه" وقيل:
استخراج معنى الكلام لا على ظاهره، بل على