الإيمان برفض الظلم الاقتصادي والاجتماعي، وكانت لـه رؤية سياسية- كما سنرى- كافح من أجلها، وحافظ على نقائها، وكانت مواقفه، ومعاركه، وما أبدعه من شعر أرّخ فيه لهذه المعارك والمواقف، أقرب الأمور إلى تصنيفه ضمن شعراء الحرب والحماسة، وذلك لأن شعره لم يكن بمعزل عن حياته أبداً، فكل مقطوعة أو قصيدة، مما جمع له من شعر- على قلته- مرتبطة بحادث يمت إلى التاريخ، ويمسه من قريب أو بعيد. وتلك هي أهم صفات الشعر الحماسي التي ذكرها الدكتور زكي المحاسني^(^^)، فهو يرى أن شعر الحرب في أدب العرب أقوى من نظم الشعراء، وأبقى على ترادف الأحقاب؛ لأنه يتصل بالأمة فيضم ماضيها إلى عزة حاضرها، وهو وحده سجل فخرها، وعنوان بأسها، وأناشيد بطولاتها، لأن العرب أمة حرب في فطرتها، وشعر الحرب يصور الحماسة العربية في أصدق مظاهرها، وأروع بيئاتها، مسكوباً عليها لونان من العبقرية، أحدهما، عربي صميم في باديته وإبله وخشونته وبأسه، والثاني: ديني إسلامي في روحه وبواعثه وثوابه وآخرته. وإذا كانت الحماسة تعني- لغوياً- الشجاعة وتقترن بها وبالقوة والغضب والشدة والهياج، والمعاني التي تتفرع منها مما يدعو إلى الحرب والاقتتال والاستبسال، كإثارة النخوة والتغني بصفات المروءة، والاحتمال والصبر، والإباء والجرأة والشدة^(^^)، فإن ابن الحر عبّر عن معظمها في شعره وفي سلوكه، وكان سلاحه مرافقاً له في جولات النصر والهزيمة، وكذلك فرسه، لأنهما عنصران متلازمان في حياة الفارس البطل. وهما عند شاعرنا يحددان الجانب من شخصيته لكثرة أوصافه لهما، كما أن مشاركته في المعارك الشديدة التي خاضها تجسيد حي لهذا الأمر، ومجال لوصف استبسال فتيانه في المعارك، إذ بدوا فيها بيض الوجوه، كريمة أحسابهم، كالمصابيح المضيئة في ليل داج، لأنهم كرام مطيعون، أشداء... أما المرأة في حياته وشعره فهي العِرْض المصون، والشرف المحمي، بل هي رمز للحقيقة التي يناضل من أجلها ويدافع عنها، إنها رمز للوطن، إن لم تكن الوطن نفسه، الوطن المتمثل في الحفاظ على عناصر الوجود، وهل كان هجومه على السجن إلا لفك أسرها؟ تغنّى عبيد الله بن الحر في شعره بأناشيد البطولة التي تبعث في النفوس الطامحة إلى العُلا نوازع الانعتاق والتحرر والشمم، فجسد في حياته الحافلة بالأحداث والمواقف مفهوم البطولة عامة، وحدد ملامح شخصيته بصورة خاصة. والذي هو قصدنا في هذا البحث صلته بالإمام الشهيد الحسين بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنهما)، الذي طلب نصرة ابن الحر، إلا أنه خذله، وتخلى عنه، معتذراً لكنه إثر وقعة كربلاء الدامية غضب لمقتل الحسين، ورثاه رثاء حزيناً باكياً، عبّر فيه عن غضبه لمقتله، داعياً إلى الأخذ بثأره، فبكى في شعره دماً، وأكثر من التعبير عن آلام الحسرة والندم والحزن واللوعة، مقرّعاً نفسه، واصفاً مصرعه الذي أثار في أعماقه لواعج الألم، فتحركت نوازعه تشعر بالإثم. وكانت معانيه، فيما وصل إلينا من شعره الذي رثى به الحسين بن علي، إطاراً فنياً كشف فيه عن هذه المعاني، وخصوصاً كونه رهين الصراع بين البطولة والتخاذل. وعليه فقد حددنا هدف هذا البحث في بيان شخصية البطل الفارس، والشاعر المجوّد، وبيان صدى هذه البطولة فيما عبّر عنه من معان شعرية تهدي إلى الكشف عن حياته، وعن الأبعاد الأخرى التي أهملتها كتب التاريخ. ونهجنا النقدي في ذلك هو الوقوف الواعي المتأني عند النصوص، والتنبيه على أنه الشاعر الذي يملك ناصية القول والفعل معاً. وهذا ما تجلى في موقفه من الإمام الحسين قبل مصرعه وبعد المأساة، ذلك الموقف الذي تجسد أمامنا حدثاً شعرياً، كان الإرهاص الأول للشعر السياسي المعبر عن نظرة الشيعة ومنطلقاتها السياسية، وهو صدى قويّ لحركة التوابين التي طالبت بنصرة الحسين، والثأر له. إن منهجنا الذي نطبقه للوصول إلى هذه النتائج هو المنهج اللغوي التحليلي^(^^) الذي وضع أسسه إمام النقاد عبد القاهر الجرجاني وطبقه في كتابيه الدلائل والأسرار. فكان (ابن الحر بين نشوة النصر وسياط الندم) موضوع الفصل الأول. وفي الفصل الثاني من هذا الكتاب (أنغامه الشعرية الأخرى) برزت طبيعة هذا المنهج بوضوح أكثر عندما قمنا بتحليل معاني أشعاره الأخرى، ونقدها في ضوء المنهج التكاملي الذي يفيد من نتائج المناهج النقدية جميعاً، فيسلط الأضواء على نسيج النص ليستخلص قيمه التبعيرية وخصائصه الفنية، وهذا ما فعلناه في حديثنا عن شخصية البطل، التي رسم الشاعر خطوطها وألوانها بالكلمات والفعل، حيث بدا ابن الحر فارساً، واضح القسمات، حريصاً على النصر، هازئاً بالموت، وذا قدرات فائقة وعقل مدبر، وزعيماً لجماعة مخلصة له