الأستاذ الدكتور : حسين جمعة
(أستاذ الدراسات العليا بجامعة دمشق)
( دراســة جماليـــة بلاغيــة نقديــة )
بسم الله الرحمن الرحيم *ألم ترَ كيف ضرب الله مثلاً كلمةً طيبةً كشجرةٍ طيبةٍ أصْلُها ثابتٌ وفَرْعُها في السماء* تؤتي أُكُلَها كل حِيْنٍ بإذنِ ربِّها، ويَضْرِب الله الأمثالَ للناس لعلهم يتذكرون* صدق الله العظيم [سورة إبراهيم 14/24
-25]
إن دراسة جمالية الكلمة بهدف الوصول إلى حقيقتها ومعرفة أطوارها الجمالية والدلالية على مر العصور؛ إنما يعني أن ندرس نشأة الإنسان ذاته؛ فهو كلمة الله الكبرى في الأرض .، وهو صورتها الفكرية والبلاغية. هذا يعني أن الكلمة مرتبطة بالإنسان والكون والفكر والفن . لتدل على أنسنة الإنسان وتجلي الروح الخالدة في الكون، وتحقق الوجود الحي بالفعل الروحي الثقافي والجمالي . فالكلمة صورة العالم الأكبر، وإن عبرت عن ذات الإنسان في مشاعره وأفكاره وما يجري حوله . وما يتلقى من معارف وآراء . ويصبح للكلمة وظيفة هامة في كل زاوية من زوايا الذات والوجود . ويغدو لها مغزى خاص في الفن يرتبط بالإمتاع والفائدة . وحين تنحصر دائرتها في فن البلاغة فإنما تتجه بشكل مباشر إلى الجمال . فالبلاغة في عناصرها كلها إنما تبنى على الجمال وتخلق بدائعه، وتتصيد مقاصده، وتحقق في الذات والمجتمع وظائفه . فليس هناك أحد في الوجود ينفر من الجمال، أو يمج طرائقه وقسماته . بل هناك سعيٌ حثيث منذ الأزل إليه؛ وشغف في النفس إلى آفاقه . وهو يتشكل داخل الإنسان باعتبار المقولة الذائعة الصيت: (كن جميلاً تر الوجود جميلاً). وهو يتشكل في الوسط الموضوعي أيضاً؛ لترتقي ذائقة الجمال من الشكل الحسي إلى العقلي فالروحي؛ فتسمو النفس وتصفو . وبهذا التصور نرى أن البلاغة حاجة جمالية للإنسان لا غنى له عنها؛ وتتحقق بالكلمة المعبرة المثيرة. لهذا كان بحثنا . الذي سميناه (في جمالية الكلمة البلاغية) . وهي بلاغية لأنها مستندة إلى أبحاث في البلاغة العربية وتهدف إلى إبراز الكلام البديع وتحصيل الإمتاع والفائدة . وقد اختزنت الذاكرة البلاغية العربية ذلك كله بصور فريدة؛ وقواعد توجه العقل والفهم؛ وتؤجج بؤرة الشعور في أمثلة استقيت من ديوان العرب ونثرهم. وقدَّمت الدراسات اللغوية والأسلوبية والبلاغية القرآنية للدرس البلاغي ما لم تقدمه أي دراسات أخرى. فقد تلقى البلاغيون الكلمة القرآنية بكثير من الانجذاب الروحي والعقلي لأنهم أدركوا ما تختزنه من عجيب التأليف، وبديع التصوير، وعمق التحليل في المستويات كلها؛ كما نراه على سبيل المثال في قول الزمخشري في الكشاف (3/236) عن قوله تعالى: ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يَمُدُّه من بعده سبعة أبحر ما نَفِدَت كلمات ربي (لقمان 31/27): "فإن قلتَ: لِمَ قيل: من شجرة على التوحيد دون اسم الجنس الذي هو شجر؟ قلت: أريد تفصيل الشجر وتقصيها شجرة شجرة؛ حتى لا تبقى من جنس الشجر ولا واحدة إلا قد بُرِيت أقلاماً". هذا هو سر بقاء الكلمة حية على عظمة ما لحقها من أهوال؛ لتخلُّف أبنائها في فترات متعاقبة، وهذا ما يجعلها هدفاً للدراسات الجمالية والبلاغية على الدوام دون النظر إلى تأخر أهلها؛ أو تراجعهم تراجعاً مؤقتاً . ولعل المثال السابق وما يسوقه البحث بين أيدينا يثبت أن البلاغيين العرب حرصوا على الجمال وفتشوا عنه في الجملة اللغوية والنحوية؛ وجعلوا الكلمة أساسه وأصله؛ وهفت نفوسهم إليه عند المتكلم والمخاطب . وأدركوا أن وراءه يكمن معنى وهدف لهذا بحثوا في الأثر النحوي، فانتهوا إلى علم المعاني . فسبقوا بذلك الغرب . فالأثر النحوي نتاج بلاغي جرجاني صِرْف سبق به رومان جاكبسون ورولان بارت وجاك دريدا . فعبد القاهر الجرجاني أول من أشار إلى المعاني الأُول والمعاني الثواني المنبثقة من معاني النحو . وهذا عينه ما تقوم عليه الدراسات البنيوية الغربية هذه الأيام . فهو لم يكتف بالحديث عن ذلك ليخترع فقط نظرية (النظم) وإنما استطاع أن يربط بدقة بين الصورة والدلالة في الجملة فاخترع له مصطلح (الهيئة) وتحدث في ذلك عن علم البيان في كتابه (أسرار البلاغة). لهذا كله فرض علينا المنهج إجراء أشكال تقاطعية بين ما قدمه البلاغيون واللغويون العرب وبين ما نجده لدى علماء الغرب؛ علماً أن منهج المقارنة لم يكن هدفاً لنا،