إنّ ممّا لا يختلف فيه اثنان أنّ الحديث أو الكتابة أو البحث عن الحرمين المباركين ، الحرم المكّي ، الحرم المدني ، له من جلال الشأن وعلوّ القدر ما لا يضاهيه شيء أبداً ، خاصّة إذا كان الباحث ممّن يرجو الله واليوم الآخر ، فيدفعه هذا الاهتمام الدقيق بهما ، وتقصّي كلّ شؤونهما ، وما يتضمّناه من تاريخ طويل ضارب في عمق التاريخ ، وما يستوحيه الإنسان من خلال تواجده فيهما من مفاهيم إيمانية وأخرى أخلاقية وسياسيّة واجتماعية . . . ويستحضر تلك المواقف الجليلة لأولئك الأفذاذ ، الذين قدّموا كلّ غالٍ في سبيل المحافظة عليهما ورعايتهما وإيصالهما للآتي من الأجيال . .
ولئن كان الحرم المكّي قد تظافرت عليه جهود أنبياء ثلاثة (إبراهيم وإسماعيل ومن ثمّ رسول الله(صلى الله عليه وآله)) حتّى صار بالصورة ، التي أرادتها السماء {مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} و {قِيَاماً لِلنَّاسِ} و {حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} وليكون مكاناً لعبادة الله تعالى {وَللهِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ . . .} {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِى أَيَّامٍ مَعْلُومَات . . .} و . .
فإنّ الحرم المدني كان مديناً لرسول الله(صلى الله عليه وآله) فقط وفقط ، الذي ما إن وطأت قدماه المباركتان تراب يثرب ، وما إن ضمّ ترابها جسده الشريف حتّى صارت المدينة حرماً آمناً بعد مكّة في المنزلة ، تشتاق إليها ـ كمكّة ـ الأرواح وتهفو إليها الأفئدة ، ويتسابق إلى زيارتها جيل بعد جيل منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة ، فلا نرى حاجّاً لمكّة أو معتمراً إلاّ وقد أكمل حجّه أو عمرته بزيارة المدينة المنوّرة حيث المرقد الطاهر المبارك لرسول الله(صلى الله عليه وآله) ، وحيث المراقد المباركة لأئمّة أهل البيت(عليهم السلام) ، وللشهداء والصحابة رضوان الله عليهم ، وحيث المعالم المباركة وآثار الرسالة الخالدة . . .
* * *
والكتاب الذي بين أيدينا واحد من تلك البحوث والمؤلّفات ، إنّه «الحرم المكّي الشريف والاعلام المحيطة به» ، وهو دراسة ميدانية ، تاريخية ، فقهية ، كانت أُطروحةً نال بها المؤلّف شهادة الدكتوراه ، كتاب قيّم جدّاً ، ومهمّ ، لايستغني عنه أيّ باحث أو متتبّع للحرم المكّي تأريخيّاً وفقهيّاً . . فأهمّيته الكبيرة وقيمته العلمية العالية يكتسبها هذا الكتاب من كونه دراسة خارج المكاتب المتعارفة للكتابة والتأليف ، فهو أي المؤلّف لا يكتفي بأن ينزوي هنا أو هناك في زاوية من زوايا مكتبته أو مكتبة أخرى يراجع كتاباً أو يتصفّح مصدراً ، ليتّخذه مدركاً لرأي رآه ، أو قولٍ ذكره ، أو شيء آخر لابدّ له من توثيقه ، وإلاّ كان كلاماً أو شيئاً لا يتّصف بالعلمية والدقّة . . فهو إضافة إلى هذا الذي تعارف عليه الكتّاب والمؤلّفون والمحقّقون . . . راح يتسلّق تلّةً أو جبلاً ويهبط وادياً . . يستقبله قوم ، ويتركه آخرون ، يستضيفونه تارةً ، وقد يبخلون عليه أخرى ، يأمنون به مرّةً ، ليحذروه أخرى . . أسئلته التي يحملها في ذهنه ، قد تتعبهم إجاباتها ، وقد لا يحيطون إلاّ بشيء يسير لا يغني ولا يسمن ، إن لم يكن يجهلونها . . فصحيح هم من أهل هذه المنطقة ، إلاّ أنّهم ليسوا بالضرورة يحيطون بعلمٍ عنها أو بإثارةٍ منها . . فيقبض على ما ينفعه . .
إنّها دراسة ميدانية ، مصادرها مواضع منبثّة هناك بعيداً لا تصلها إلاّ بشقّ الأنفس ، وأخرى أبعد منها ، الوصول إليها أمر يحتاج إلى صبر ومصابرة ، بل ومرابطة تكلّف الباحث جهوداً كبيرة وآلاماً كثيرة ، والعجيب في الأمر أنّ هذا الرجل الصالح الصابر المثابر الدؤوب ، لم يتهيّب ذلك ، ولم ينكل عن مهمّته التي عاشها حلماً سنين طويلة ، وهاهي الآن أمامه واقعاً وإن كان مرّاً ، إلاّ أنّه سيترك له بضاعة كبيرة ، وثماراً يانعةً ، ونتائج جميلة ، يزول بسببها كلّ ألم ومعاناة ، بل وينسى عثراتٍ وصعاباً وإن كانت عظاماً ، مقابل ما جناه من ثمارٍ وما حصل عليه من منافع . .
* * *