وما في ذلك من التعليل، وضروب الحقيقة والتخييل"
اعلم أن الُحكْم على الشاعر بأنه أخذ من غيره وسَرَق، واقتدى بمن تقدَّم وسبق، لا يخلو من أن يكون في المعنى صريحاً، أو في صيغة تتعلق بالعبارة، ويجب أن نتكلم أوّلاً على المعاني، وهي تنقسم أوَّلاً قسمين: عقليّ وتخييليّ، وكل واحدٍ منهما يتنوّع، فالذي هو العقلي على أنواع: أوّلها: عقليٌّ صحيحٌ مَجراه في الشعر والكتابة والبيانِ والخطابة، مَجْرَى الأدلّة التي تستنبطها العقلاء، والفوائد التي تُثيرها الحكماء، ولذلك تجدُ الأكثر من هذا الجنس مُنْتَزَعاً من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وكلام الصحابة رضي اللَّه عنهم، ومنقولاً من آثار السلف الذين شأنُهم الصدق، وقصدُهم الحقُّ، أو ترى له أصلاً في الأمثال القديمة والحكم المأثورة عن القدماء، فقوله:
ونظائرُه، كقوله:
معنًى صريحٌ محضٌ يشهد له العقل بالصحة، ويُعطيه من نفسه أكرم النِّسبة، وتتفق العقلاء على الأخذ به، والحكم بموجَبه، في كل جيل وأمّة، ويوجد له أصل في كل لسَان ولُغة، وأعلى مَنَاسبه وأنورُها، وأجلُّها وأفخرها، قول اللَّه تعالى: "إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّه أَتْقَاكُمْ"" "الحجرات: 13"، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أَبْطأَ به علمُه لم يُسْرِع به نسبُه"، وقوله عليه السلام: "يا بني هاشم، لا تجيئني الناسُ بالأعمال وتجيئوني بالأنساب"، وذلك أنه لو كانت القضيّة على ظاهرٍ يَغْترُّ به الجاهل، ويعتمدُه المنقوصُ، لأدَّى ذلك إلى إبطال النَّسب أيضاً، وإحالة التكثّر به، والرجوع إلى شَرَفه، فإن الأوّل لو عَدِمَ الفضائلَ المكتسَبة، والمساعيَ الشريفة، ولم يَبِنْ من أهل زمانه بأفعالٍ تُؤَْثر، ومناقب تُدَوَّن وتُسَطَّر، لما كان أَوَّلاً، ولكان المَعْلَم من أمره مَجْهلاً، ولما تُصُوّر افتخار الثاني بالانتماء إليه، وتعويلُه في المفاضلة عليه، ولكان لا يُتصوَّر فَرْقٌ بين أن يقول: هذا أبي، ومنه نسبي، وبين أن يُنسَب إلى الطين، الذي هو أصل الخلق أجمعين، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "كلُّكم لآدم، وآدمُ من التراب"، وقال محمد بن الربيع الْمَوْصلي:
فهذا كما ترى باب من المعاني التي تُجمَع فيها النظائر، وتُذكَر الأبيات الدالّة عليها، فإنها تتلاقى وتتناظر، وتتشابه وتتشاكل، ومكانُه من العقل ما ظَهَر لك واستبان ووضح واستنار، وكذلك قوله:
وكل امرئ يُولِي الجميلَ محبَّبٌ
صريحُ معنًى ليس للشعر في جوهره وذاته نصيب، وإنما له ما يُلْبَسه من اللفظ، ويكسوه من العبارة، وكيفيةِ التأدية من الاختصار وخلافه، والكشف أو ضدّه، وأصله قول النبي صلى الله عليه وسلم: "جُبلت القلوبُ على حُبّ من أحسن إليها"، بَل قول اللَّه عز وجل: "ادْفَعْ بالَّتِي هِيَ أحْسَنُ فَإذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ" "فصلت: 34"، وكذا قوله:
معنًى معقولٌ لم يزل العُقلاءُ يَقْضون بصحّته، ويرى العارفون بالسياسة الأخذَ بسنَّته، وبه جاءت أوامِر اللَّه سبحانه، وعليه جَرَت الأحكام الشرعية والسّنَن النبوية، وبه استقام لأهل الدِّين دينهم، وانتفى عنهم أذَى مَن يَفْتِنهم ويَضيرُهم، إذ كان موضوع الجبلَّة على أن لا تخلو الدنيا من الطُغاة المارِدين، والغُواة المعاندين، الذين لا يَعُونَ الحكمة فَتَرْدَعَهم، ولا يَتَصوَّرون الرشدَ فيكُفَّهم النُّصْحُ ويمنعهم، ولا يُحسّون بنقائص الغَيّ والضلال، وما في الجَوْر والظلم من الضَّعة والخَبال، فيجِدوا لذلك مَسَّ أَلَمٍ يحبِسُهم علَى الأمر، ويقف بهم عند الزجر، بل كانوا كالبهائم والسِّباع، لا يوجعهم إلاّ ما يَخْرِق الأبشار من حَدّ الحديد، وسَطْو البأس الشديد، فلو لم تُطبَع لأمثالهم السيوف، ولم تُطلَق فيهم الحتوف، لما استقام دينٌ ولا دنيَا، ولا نال أهلُ الشرف ما نالوه من الرتبة العليا، فلا يطيب الشُرب من مَنْهلٍ لم تُنفَ عنه الأَقذاء، ولا تَقَرُّ الروح في بدنٍ لم تُدفَع عنه الأَدواء. وكذلك قوله: