(وإذا أردنا أن نهلك قرية) الخ، إن لكل شيء من الدنيا زوالا وزواله بحصول استعداد يقتضي ذلك. وكما أن زوال البدن بزوال الاعتدال وحصول انحراف يبعده عن ظل الوحدة التي هي سبب بقاء كل شيء وثباته فكذلك هلاك المدينة وزوالها بحدوث انحراف فيها عن الجادة المستقيمة التي هي صراط الله وهي الشريعة الحافظة للنظام، فإذا جاء وقت إهلاك قرية فلا بد من استحقاقها للإهلاك، وذلك بالفسق والخروج عن طاعة الله فلما تعلقت إرادته بإهلاكها تقدمه أولا بالضرورة فسق مترفيها من أصحاب الترف والنعم بطرا وأشرا بنعمة الله واستعمالا لها فيما لا ينبغي وذلك بأمر من الله وقدر منه لشقاوة كانت تلزم استعداداتهم وحينئذ وجب إهلاكهم.
(من كان يريد العاجلة) لكدورة استعداده وغلبة هواه وطبيعته (عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد)
أي: لا نزيده بإرادته زيادة على ما قدرنا له من النصيب في اللوح ولذلك قيده بالمشيئة ثم بقوله (لمن نريد) يعني: لو لم نقدر له شيئا مما أراده لم نعجل له تخليصه، إنا لا نعطي إلا ما أردنا (من أردنا ثم جعلنا له جهنم) أي: قعر بئر الطبيعة الظلمانية لانجذابه بإرادته إلى الجهة السفلية وميله إليها (يصلاها) بنيران الحرمان (مذموما) عند أهل الدنيا والآخرة (مدحورا) من جناب الرحمة والرضوان في سخط الله وقهره.
(ومن أراد الآخرة) لصفاء استعداده وسلامة فطرته وقام بشرائط إرادته من الإيمان والعمل الصالح شكر سعيه بحصول مراده كما قيل: من طلب وجد وجد، لأن الطلب الحقيقي والإرادة الصادقة لا يكونان إلا عند حصول استعداد المطلوب، وإذا قارن الاستعداد الدال على أن المطلوب حاصل له بالقوة، مقدر له في اللوح أسباب خروج المطلوب إلى الفعل وبروزه من الغيب إلى الشهادة وهو السعي الذي ينبغي له ومن حقه أن يسعى له على هذا الوجه المعني بقوله: (وسعى لها سعيها) أي: السعي الذي يحق لها بشرط الإيمان الغيبي اليقيني وجب حصوله له (كلا نمد هؤلاء وهؤلاء) أي: كلهم من طالبي الدنيا وطالبي الآخرة نمد من عطائنا ليس بمجرد إرادتهم وسعيهم شيء وإنما إرادتهم وسعيهم معرفات وعلامات لما قدرنا لهم من العطاء (وما كان عطاء ربك) ممنوعا من أحد، لا من أهل الطاعة ولا من أهل المعصية.
(انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض) في الدنيا بمقتضى مشيئتنا وحكمتنا (وللآخرة أكبر درجات) إذ بقدر رجحان الروح على البدن يكون رجحان درجات الآخرة على الدنيا وبقدر تفاضلهما يكون تفاضل درجاتهما.