انظروا الى النمله فى صغر جثها، و لطافته هيتها، لا تكاد تنال بلحظ البصر، و لا بمستدرك الفكر، كيف دبت على ارضها، و صبت على رزقها، تنقل الحبه الى جحرها، و تعدها فى مستقرها. تجمع فى حرها لبردها، و فى وردها لصدرها، مكفول برزقها، مرزوقه بوفقها، لا يغفلها المنان، و لا يحرمها الديان، ولو فى الصفا اليابس، و الحجر الجامس! و لو فكرت فى مجارى اكلها، فى علوها و سفلها، و ما فى الجوف من شر اسيف بطنها، و ما فى الراس من عينها و ادنها، لقضيت من خلقها عجبا، و لقيت من وصفها تعبا! فتعالى الذى اقامها على قوائمها، و بناها على دعائمها! لم يشركه فى فطرتها فاطر، و لم يعنه على خلقها قادر.
و لو ضربت فى مذاهب فكرك لتبلغ غاياته، ما دلتك الدلاله الا على ان فاطر النمله هو فاطر النخله، لدقيق تفصيل كل شى ء، و غامض اختلاف كل حى. و ما الجليل و اللطيف، و الثقيل و الخفيف، و القوى و الضعيف، فى خلقه الا سواء. [ ص 270 و 271. ]
و ان شئت قلت فى الجراده، اذ خلق لها عينين حمراوين، و اسرج لها حدقتين قمراوين، و جعل لها السمع الخفى، و فتح لها الفم السوى، و جعل لها الحس القوى، و نابين بهما تقرض، و منحلين بهما نقبض. يرهبها الزارع فى زرعهم، و لا يستطيعون ذبها، و لو اجلبوا بجمعهم، حتى ترد الحرث فى نزواتها، و تقضى منه شهواتها. و خلقها كله لا يكون اصبعا مستدقه. [ ص 272. ]
و لو اجتمع جميع حيوانها من طيرها و بهمائمها، و ما كان من مراحها و سائمها، و اصناف اسناخها و احناسها، و متبلده اممها و اكياسها، على احداث بعوضه، ما قدرت على احداثها، و لا عرفت كيف السبيل الى ايجادها، و لتحيرت عقولها فى علم ذلك و تاهت، و عجزت قواها و تناهت، و رجعت خاسئه حسيره، عارفه بانها مقهوره، مقره بالعجر عن انشائها، مذعنه بالضعف عن افنائها! [ ص 275. ]
ام هذا الذى انشاه فى ظلمات الارحام، و شغف الاستار، نطفه دهاقا، و علقه محاقا، و جنينا و راضعا، و وليدا و يافعا، ثم منحه قلبا حافظا، و لسانا لافظا، و بصرا لاحظا، ليفهم معتبرا، و يقصر مزدجرا، حتى اذا قام اعتدا له، و استوى مثاله، نفر مستكبرا، و خبط سادرا. [ ص 112. ]