على الرغم من أنّ كلّ الروايات ، التي ذكرناها فيما سبق ، لم يرد فيها كلام عن ماهيّة «الجمرة» ، لكن يمكن حصول الاطمئنان ـ من خلال تعابيرها ـ إلى أنّه لم يكن في هذه القطعة من الأرض المحدّدة في منى خلال عصر النبيّ(صلى الله عليه وآله) وأئمّة أهل البيت(عليهم السلام) ، غير موضع اجتماع الحصى ، واستمرّ الوضع أيضاً على هذه الحال في زمان الفقهاء القدامى من الفريقين .
وبعبارة أخرى : لم يكن في منى عمود بعنوان الجمرة تُرمى بالحجر ، بل إنّ الحجيج كانوا يرمون هذا الموضع المبنيّ الآن حول الجمرات بشكل حوض صغير بالحجر .
ملاحظة
يستفاد من التواريخ المعروفة ، مثل تاريخ «مروج الذهب للمسعودي» و«الكامل لابن الأثير» أنّهم كانوا في الجاهلية يرجمون قبر بعض الأفراد المنبوذين الخونة .
يقول المسعودي في مروج الذهب : عندما سار أبرهة بأصحاب الفيل إلى مكّة لإخراب الكعبة . . . فعَدَل إلى الطائف ، فبعثت معه ثَقيف بأبي رُغال ; ليدلّه على الطريق السهل إلى مكّة ، فهلك أبو رغال في الطريق بموضع يقال له المُغَمَّس بين الطائف ومكّة ، فَرُجم قبره بعد ذلك ، والعرب تتمثّل بذلك . وفي ذلك يقول جرير ابن الخطفي في الفرزدق
ويقول هذا المؤرّخ في رواية اُخرى : وقيل : إنّ أبا رُغال وَجَّهه صالح النبيّ على صدقات الأموال ، فخالَفَ أمرَه وأساء ا لسيرة ، فوثب عليه ثقيف ـ وهو قَسِّي بن منبه ـ فقتله قتلةً شنيعة . . . وفي ذلك يقول مسكين الدارمي
ومن المحتمل أنّهما اثنان ، كان أحدهما في زمن أبرهة والآخر في زمن النبيّ صالح(عليه السلام) .
وينقل ابن الأثير في «الكامل» قصّة أبرهة وأبي رغال ، فيقول بعد ذكر موته في «المُغمَّس»
«فرَجَمت العربُ قبره ، فهو القبر الذي يُرجَم»32.
وجاء في سفينة البحار (مادّة : لَهَبَ) عند ذكر قصّة أبي لهب ، لمّا مات أبو لهب بقي جسده ثلاثة أيّام حتّى أنتن في بيته ، ثمّ دفنوه بأعلى مكّة (في طريق العمرة) وقذفوا عليه الحجارة حتّى واروه ، وبعد انتشار الإسلام كان قبره يُرمى بالحجر .
يُستفاد من هذه العبارات أنّ العرب قبل الإسلام وبعده كانوا يرمون قبور المنبوذين ، ولعلّه قد اُخذ من رمي الجمرات . ولم يُذكر في هذه التواريخ أنّهم قد اتّخذوا أعمدة لهذه القبور يرمونها ، ولو كان للجمرات عمود في ذلك الزمان ، لكان المناسب أن يكون تقليد العرب على هذه الصورة . ولا نريد أن نطرح هذا المطلب بعنوان دليل ، بل إنّه يُعدّ مؤيّداً وحسب .