شهادة الروايات
لقد وردت روايات
رمي الجمرات في كتاب «وسائل الشيعة» على قسمين الأوّل : في أبواب «رمي جمرة العقبة» ، إذ
ذُكرت في ضمن سبعة عشر باباً روايات وفيرة حول أحكام الجمرات ، ولكن لا نجد في
أيّ منها تفسيراً وتوضيحاً للجمرة ، وهل هي العمود ، أم مجتمع
الحصى؟
ثمّ ذُكرت من
جديد أحاديث أخرى كثيرة بعد أبواب الذبح والتقصير ، تحت عنوان «أبواب العَود
إلى منى ورمي الجمار . . .» تتحدّث في ضمن سبعة أبواب عن رمي
الجمرات الثلاث بعنوان أعمال اليوم الحادي عشر والثاني عشر من ذي الحجّة ، ولا
نجد في أيّ من هذه الروايات أيضاً كلاماً حول تفسير
الجمرات .
ولكنّ الدراسة
الدقيقة لمجموع هذه الأبواب الأربعة والعشرين قد بيّنت أنّ في روايات متعدّدة منها
إشارات ذات دلالة على ما ذهبنا إليه من كون الجمرة هي موضع
الحصى .
لاحظوا هذه
الروايات السبع 1 ـ نقرأ في حديث
معتبر عن معاوية بن عمّار عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه
قال «فإنْ رَمَيتَ بِحَصاة فَوَقَعَتْ في
مَحمِلٍ فأعِدْ مكانَها ، وإنْ أصابت إنساناً أو جَمَلاً ثمّ وَقَعتْ على
الجِمارِ أجزأك»24.
وتعبير «على
الجمار» يشير إلى أنّ الجمرة هي قطعة الأرض التي تقع فيها الحصيات. ولنتذكَّر هنا
أنّ كثيراً من أرباب اللغة قد فسّروا «الجمار» بصغار الأحجار.
منهم ابن الأثير
في «النهاية» حيث يقول : «الجمار هي الأحجار
الصغار» .
ويقول الفيّومي
في «المصباح المنير» : «والجمار هي الحجارة» .
ويقول ابن منظور
في «لسان العرب» : «الجمرات والجِمار : ا لحصيات التي ترمي بها في
مكّة» .
وبناءً على
هذا ، فإنّ وقوع الحجر على الجمار يعني وقوعه على الحصى ، وهذا مُجزٍ طبق
الروايات .
إضافةً إلى هذا
أنّ الحجر الذي يقع على بدن الإنسان ، أو على جمل ليست له في رجوعه القوّة
الكافية ، لأن تجعله يصيب الأعمدة (على فرض وجودها) ، وأكثر ما يمكن أنّه
يقع على الحصى .
2 ـ نقرأ في حديث
البزنطي (أحمد بن محمّد بن أبي نصر) عن أبي الحسن (عليّ بن موسى الرضا(عليه
السلام)) «واجْعَلْهُنَّ عَلَى يَمينِكَ
كُلَّهُنَّ ، ولا تَرْمِ عَلى الجَمْرَةَ»25.
وهذا الحديث يدلّ
دلالة بيِّنة على أنّ الجمرة هي موضع الحصى ، ذلك أنّ بعضهم يقف على جانب منه
ويرمي الجانب الآخر . والإمام(عليه السلام) ينهى عن هذا العمل ، وإلاّ
فإنّ أحداً لا يقف على العمود عند رمي الجمرة .
وقد مرّ بنا هذا
المعنى أيضاً لدى ذكر كلام فقهاء العامّة في البحث السابق ، حيث يقول
بعضهم : لا يجوز الوقوف على الجمرة .
3 ـ نقرأ في حديث معتبر
آخر ، عن معاوية بن عمّار ، عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه
قال «خُذْ حَصَى الجِمارِ ثمّ ائْتِ
الجَمْرَةَ القُصوى التي عندَ العَقَبَة فارْمِها مِن قِبَلِ وَجهِها ، ولا
تَرْمِها مِن أعلاها»26.
يدلّ هذا التعبير
وتعابير الفقهاء على أنّ جمرة العقبة قطعة أرض أحد جانبيها أعلى من الآخر ،
وبعبارة أُخرى أنّ أحد جانبيها وادٍ ، وجانبها الآخر تلّة . وقد أُمِر أن
يُرمى من جانب الوادي الذي هو في الواقع مستدبر لمكّة لا من جانب التلّة (لأنّه
يستفاد من روايات أخرى أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قد فعل
ذلك) .
وإذا كانت الجمرة
بمعنى العمود فإنّ جملة «ولاَ تَرْمِها مِنْ أعلاها» تكون بلا معنى ; لأنّ
أحداً لايصعد إلى أعلى العمود للرمي .
4 ـ جاء في كتاب
فقه الرضا(عليه السلام) «وإن رَمَيتَ
ودَفَعتَ في مَحمِلٍ وانحَدَرتْ منهُ إلى الأرض أجزأتْ
عنك» .
وفي نسخة أُخرى : «إنْ أصابَ
إنساناً ثمَّ أو جَمَلاً ثُمّ وقَعَت على الأرض أجزأه»27.
ومن الواضح
جليّاً أنّ المراد بهذه العبارة التدحرج والوقوع في أرض موضع الرمي ، وعلى هذا
لا يبدو موجّهاً إشكال صاحب الجواهر حين قال : «والحديث
مبهم» .
5 ـ جاء في حديث
آخر في فقه الرضا حول كيفيّة رمي الجمرة «وتَرمي مِن قِبَل وَجهِها ، ولا
تَرْمِها مِن أعلاها . . .»28.
إذا كانت الجمرة
بمعنى العمود ، فلا معنى لأن يصعد عليه أحد ثمّ يرميه ، إنّما مفهومه ـ
بقرينة قوله : «تَرمي مِن قِبل وَجهِها ولا تَرمها مِن أعلاها» ـ هو أنّ هذه
القطعة من الأرض كانت ـ كما قلنا ـ في مُنحدَر ، ويستحبّ أن ترمى من جانبها
الأسفل ، لا من جانبها الأعلى ، كما نُقل عن فعل النبيّ(صلى الله عليه
وآله) .
سؤال: إذا قيل:
ربّما كان المراد لا تَرم أعلى العمود وارمِ أسفله . . فماذا
تقولون؟
نقول في
الجواب أوّلاً : إذا كان هو المراد ، فإنّ العبارة
ينبغي أن تكون : «ولا تَرْمِ أعلاها» وليس «ولا تَرْمِ مِن أعلاها»
(فلاحِظ) .
ثانياً : أنّ المقابلة بين «تَرمي مِن قِبَل
وَجهِها» و«ولا تَرْمِها مِن أعلاها» دليل واضح على أنّ المراد تلك القطعة من
الأرض ، التي هي منخفضة من جانب ومرتفعة من جانب آخر ، أي : ارمِ من
الجانب المنخفض (الوادي) ، لا من الجانب المرتفع . وسواء أكان فقه الرضا
حديثاً أم فتوى ، فإنّه شاهدٌ حَسَن على هذا
المدّعى .
6 ـ وفي كتاب
«دعائم الإسلام» حديث عن الإمام الصادق(عليه السلام) شبيه بهذا المعنى ،
قال : وهذا التعبير يشير أيضاً إلى أنّ الجمرة هي قطعة الأرض ، التي أحد
جانبيها أكثر ارتفاعاً . وفي هذه الرواية نهي عن الرمي من هذا الجانب ،
وإلاّ فإنّ أحداً لايقف على
العمود .
7 ـ في سنن
البيهقي عن عبدالله بن يزيد أنّه قال : كنت مع عبدالله بن مسعود ، فأتى
جمرة العقبة فاستبطَنَ الوادي فرماها من بطن الوادي ، فقلت
له «الناس يرمونها من فوقها»،
فقال : هذا ـ والذي لاإله غيره ـ مقام الذي أُنزلت عليه سورة
البقرة29.
يعني أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) رماها من أسفلها ، وما وقف في أعلى
الجمرة.
وثمّة حديث ربّما
يُظنّ أنّه يشير إلى وجود عمود للجمرات «عن أبي غَسّان
حُمَيد بن مسعود ، قال : سألتُ أبا عبدالله(عليه السلام) عن رَمْي الجِمار على غير
طهور ، قال : الجِمار عندنا مِثل الصَّفا والمَروَةِ : حِيطان إن
طُفْتَ بينهما على غير طهور لم يَضُرَّكَ ، والطُّهر أحبُّ إليّ ، فلا
تَدَعْهُ وأنتَ قادرٌ عليه»30.
فقد استفاد بعض
الفقهاء المتأخّرين من أنّ الحيطان (جمع حائط بمعنى الجدار) تشير إلى وجود جدار
هناك ، وهذا الجدار من المحتمل أنّه أعمدة الجمرات .
ولكنّ هذا
الاستدلال قابل للمناقشة من عدّة جهات ، لأنّه أوّلاً : سند الحديث ضعيف ، فإنّ حُميد بن
مسعود من المجاهيل ، وبناءً على هذا ، فإنّ هذا الحديث ـ وهو خبر واحد
ضعيف ـ لا يمكن أن يُثبت شيئاً ، فيما كانت الروايات السابقة متظافرة ،
إضافةً إلى أنّ بينها حديثاً صحيحاً ومعتبراً
أيضاً .
ثانياً : إذا لم يكن هذا الحديث ـ من حيث الدلالة
أيضاً ـ لا يدلّ على خلاف مطلوبهم ، فإنّه ليس على وفق مطلوبهم ;
لسببين 1 ـ إنّ «حيطان»
جمع «حائط» بمعنى جدار ، يحوط شيئاً ما . وهذه الكلمة مشتقّة من مادّة
«حوط» و«إحاطة» ، ومن يقال للبستان المحاط بجدار :
حائط .
يقول ابن منظور
في «لسان العرب» : «والحائط : الجدار ، لأنّه يحوط ما فيه ،
والجمع
حيطان» .
واللافت أنّ
المعنى الأصلي لـ «حوط» حياطة الشيء وحفظه ، ويقال للجدران التي حول الشيء
حائط ; لأنّه يحوطه ويحفظه .
وعلى هذا لا معنى
لأن يسمّى عمود شبيه بعمود الجمرات الحالي حائطاً . وإذا كان ثمّة حائط فهو
جدار شبيه الجدار الحالي لنقرة الجمرات ، الذي بُني حول قطعة من الأرض
مخصوصة ، وليس له من ارتباط بالعمود (فلاحِظْ) .
2 ـ إنّ النسبة
بالصفا والمروة يعطي هنا معنىً خاصّاً ، وذلك أنّ الصفا والمروة جبلان أحدهما
أعلى قليلاً من الآخر ، وليس حولهما حيطان . ولو كان ثمّة حائط ،
فما وجه ارتباطه بمسألة الوضوء حتّى قال : إنّهما (الصفا والمروة والجمرات)
حيطان فلا حاجة إلى طهور؟
تصوّرنا أنّ
المراد من الحديث ا لآنف الذكر أنّ الصفا والمروة ساحة عاديّة مثل الجمرات ،
ليس لها حكم الكعبة والمسجد الحرام حيث يجب الوضوء للطواف ، ويستحبّ لدخول
المسجد .
وبناءً على هذا
لا دلالة في الحديث المذكور على وجود عمود في الجمرات ، إذا لم يدلّ على خلاف
ذلك . إضافةً إلى هذا ، فإنّ هذا الحديث ـ كما قلنا سابقاً ـ حديث ضعيف
لا يُثبت شيئاً .
* *
*