تذكرتان لازمتان
1 ـ يبدو أنّ بناء العمود الحاضر لم يكن
له وجود مطلقاً في زمان قدماء الأصحاب ; فإنّ عبارة «المبسوط»16 تدلّ بوضوح على
عدم وجوده . وما لدينا من كلام يحيى بن سعيد الحلّي في
«الجامع للشرائع» يشهد أيضاً لهذا المعنى بجلاء ، فإنّه يقول : «ولا تقف
على الجمرة»17.
ومن المتيقّن أن
لو كانت الجمرة عموداً ، لكان الوقوف عليه أمراً مضحكاً ، بل إنّ المراد
أن لا تقف على طرف النُّقرة أو على مجتمع الحصى ; ذلك أنّ بعض الفقهاء يَرَون
أنّه يمكن الوقوف في طرف منها ورمي الطرف الآخر ، لكنّ بعضهم يَرَون هذا غير
جائز .
ويستفاد من كلام
صاحب «المدارك» أيضاً أنّه لم يكن يعتقد اعتقاداً قطعيّاً بوجود الأعمدة في الأزمنة
السابقة ، فإنّه يقول «وينبغي
القطع باعتبار إصابة البناء مع وجوده ، لأنّه المعروف الآن من لفظ
الجمرة ، ولعدم تيقّن الخروج من العهدة بدونه ، أمّا مع زواله فالظاهر
الاكتفاء بإصابة موضعه»18
ولعلّه أوّل من
أفتى بهذه الفتوى .
وفي كلام بعض
فقهاء السنّة أو الزيديّة (أي المتأخّرين منهم) إشارة كذلك إلى وجود العمود في
زمانهم . منهم الإمام أحمد المرتضى من فقهاء الزيدية في القرن التاسع ،
الذي أشارت عبارة له إلى وجود العمود في زمانه ، لكنّ الطريف أنّه يصرّح بأنّ
بعض الفقهاء قالوا : لا يجزئ رمي الأعمدة بالحجر ، ويجب أن يصيب موضع
الجمرة (مجتمع الحصى) . وهذه عبارته «فإنْ
قَصَد إصابة البناء فقيل لا يجزي ; لأنّه لم يقصد المرمى . والمرمى هو
القرار لا البناء
المنصوب»19.
أجَل ،
إنّنا كلّما بحثنا في كلام فقهاء الشيعة والسنّة تأكّد وصولنا إلى هذه
النتيجة ، وهي أنّ موضع الرمي هو قطعة الأرض ، وإنّما بُني العمود بعدئذ
ليكون علامة .
2 ـ من اللاّزم
الالتفات إلى هذه النقطة أيضاً ، وهي أنّ طائفة من متأخّري الفقهاء يَعدّون
رمي الموضع مجزياً ، منهم الشهيد الأوّل في كتاب الدروس ، حيث
يقول «والجمرة اسم
لموضع الرمي ، وهو البناء أو موضعه ممّا يستجمع من الحصى .
وقيل : هي مجتمع الحصى لا السائل
منه . وصرّح عليّ بن بابويه بأنّه الأرض»20.
ومنهم الفاضل
الاصفهاني في كشف اللثام حيث يقول في تفسير «الجمرة» «هي المِيل المبنيّ ، أو
موضعه»21.
ويقول الشهيد
الثاني كذلك في شرح اللمعة لدى تعريفه الجمرة «وهي البناء المخصوص أو موضعه وما حوله
ممّا يجتمع من الحصى ، كذا عرّفه المصنّف في الدروس ، وقيل : هي
مجمع الحصى . . . وقيل : هي الأرض»22.
وقد قرأنا في الأبحاث السابقة ما ورد في
آخر كلام صاحب الجواهر أنّ هذا الفقيه الماهر كان يميل إلى إجزاء إصابة كلٍّ من
الاثنين (الموضع والبناء)23.