کنز الفوائد

ابو الفتح الکراجکی؛ مصحح: عبدالله نعمه

جلد 2 -صفحه : 21/ 4
نمايش فراداده

وحـيـن انفتح التدوين الحكومي ـ في زمن الامويين ـ صار مقدمة لشيوع ظاهرة وضع الحديث على مـصـراعـيـه , مما اتاح للحكام جمع اكبر عدد من الرواة ليضعوا لهم ما يروقهم من الاحاديث . وقد فصلنا الكلام عن هذا في كتابناوضوء النبي ((49)) , وقلنا ان معاوية امر كعب الاحبار ان يجلس فـي الـمسجدويقص للناس , كي يضع له ما يريد من احاديث , ويعارض مالايعجبه منها,فكان ان وضع على لسان الرسول احاديث كثيرة .

مـن هـنـا يـمكن ان نقول : ان راي الخليفة ابي بكر هو راي واحد, بكلاشقيه . ومفاده الحجر على الـتحديث والتدوين , وان كان قد علل منعه للتحديث اولابتخوفه من الاختلاف في المرويات , واداه ذلك الى دعوته للاخذ بكتاب اللّه وحده .

وقـد استحكم الشك في قلبه ـ بسبب الاختلاف الذي منع على اساسه التحديث ـ فسرى حتى شمل اصـحـابه العدول المؤتمنين , فغدا يسقطجميع المرويات , حتى التي دونها هو بنفسه , ولذلك تشدد اكثر, وراح يحظرالتدوين ايضا بعد منعه التحديث .

وقـد قـال الـدكـتـور حسين الحاج حسن في كتابه نقد الحديث وهو في معرض الكلام عن نشاة الحديث : اما اذا انتقلنا الى عصر الصحابة وجدناهم غالبا يكرهون تدوين الحديث , بينما يرغبون في روايـتـه , وهـو امـر غـريـب ,يـحـبون رواية الحديث ويكرهون تدوينه هذا هو الظاهر الذي يمكن ان نفهمه من تعليلي ابي بكر, مع ان واقع المنع كان يستند الى اسباب اخر, غير ما اظهره في هذين التعليلين ,اذاوضحنا سقوطهما عن الاعتبار بما مر من الاشكالات .

اما الاسباب الواقعية للمنع , فسياتيك وجهها في السبب الاخير ان شاءاللّه .

وبذلك عرفنا ان تعليل الخليفة لمنع التدوين , تعليل عليل غير مقنع , ولايثبت امام البحث والمناقشة .

السبب الثاني : ما طرحه الخليفة عمر بن الخطاب ويمكن ان يستنتج هذا الراي من نصين : ا ـ عن عروة بن الزبير: ان عمر بن الخطاب اراد ان يكتب السنن فاستشارفي ذلك اصحاب رسول اللّه (ص ), فـاشاروا عليه ان يكتبها, فطفق عمر يستخيراللّه فيها شهرا, ثم اصبح يوما, وقد عزم اللّه لـه , فـقـال : انـي كـنت اردت ان اكتب السنن , واني ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا, فاكبوا عليها,فتركوا كتاب اللّه تعالى , واني ـ واللّه ـ لا البس كتاب اللّه بشي ء ابدا ((51)) .

وروي عـن يحيى بن جعدة : ان عمر بن الخطاب اراد ان يكتب السنة ثم بدا له ان لا يكتبها. ثم كتب في الامصار: من كان عنده منها شي ءفليمحه ((52)) .

ب ـ عـن القاسم بن محمد بن ابي بكر: ان عمر بن الخطاب بلغه انه قدظهرت في ايدي الناس كتب , فـاسـتنكرها وكرهها, وقال : ايها الناس , انه قدبلغني انه قد ظهرت في ايديكم كتب فاحبها الى اللّه اعدلها واقومها, فلايبقين احد عنده كتابا الا اتاني به , فارى فيه رايي .

قـال : فـظـنوا انه يريد ان ينظر فيها ويقومها على امر لا يكون فيه اختلاف ,فاتوه بكتبهم , فاحرقها بالنار ثم قال : امنية كامنية اهل الكتاب ((53)) .

وفي الطبقات الكبرى : مثناة كمثناة اهل الكتاب ((54)) .

ويـحـتـمـل ان تكون مصحفة مشناة وهي روايات شفوية دونها اليهودثم شرحها علماؤهم فسمى الشرح جمارا, ثم جمعوا بين الكتابين فسمى مجموعها ـ الاصل ـ والشرح ـ المشناة ((55)) .

ومن هذين النصين نفهم ان تعليل الخليفة لمنعه تدوين السنة الشريفة ينحصر فيما يلي : 1 ـ الخوف من ترك القران والاشتغال بغيره .

2 ـ الخوف من اختلاط الحديث بالقران .

اما التعليل الاول : فيرد عليه بامور: اولا: ان هـذا الـتـبـرير صدر تحت قناعات سابقة ولظروف خاصة . لقوله :واني ذكرت قوما....

وامنية كامنية اهل الكتاب .

وسنشير الى تلك الخلفيات عند عرضنا للسبب الاخير.

فـي حين نعلم ان هذا التصور لا يستساغ من قبل الخليفة فيما يتصل بالصحابة الاوائل لان هذه العلة مما لا تشملهم . هذا اولا.

ثانيا: يلاحظ ان هذا التعليل ينطوي على غير قليل من الغموض والابهام ,الامر الذي يدعو الى الشك فـي كونه السبب المباشر لمنع الخليفة , اذلا ينكر احدمن المسلمين ان ترك القران والانصراف الى سـواه منهي عنه , وحرام شرعا , اماالادعاء بان الاشتغال بغير القران يؤدي الى تركه , فهو خلطبين وكلام غير دقيق ,اذ من الثابت ان ما يؤدي الى ترك القران هو ما يكون منافياللقران , كالاخذبالتوراة والانجيل , وما فيهما من العقائد والاراء, اما العناية بمفسر القران ومبينه آكما قال تعالى للنبي (ص ): (لـتـبـيـنـه لـلناس ) ـ وعده موجبا لترك القران وهجرانه فهو ايهام وخلط بين حق وباطل .. ذلك ان الاقبال على الحديث اقبال على القران الكريم في تفسيره والكشف عن مضامينه .

ثـالـثـا: ان تـعليل الخليفة هذا يستلزم اتهام الصحابة بفقدانهم القدرة على التمييز بين كلام اللّه الذي حـفـظـوه وتـناقلوه , وبين كلام النبي (ص ),الذي صدر في مقام التفسير والشرح . في حين نعلم ان الـنص القراني بصياغته الخاصة وبلاغته المتميزة وجذبته الروحية مما لا يخفى على احد, وممالا يمكن الخلط بينه وبين الحديث .

ان القرآن المجيد له صياغته الخاصة , واسلوبه المتيز عن كل كلام سواه ,اذالايات القرآنية وحدة موضوعية مترابطة ونسيج متماسك يستحيل اختلاطه بغيره من الكلام , واذا امكن حصول الالتباس فـي كـلـمـات مـنـه او آيـة مـثـلا, وهل انها من القرآن ام من كلام النبي ـ كما اسلفنا حصول ذلك لـبـعـض الـصـحـابة ـ فان ذلك امر جزئي قد يحصل , ويمكن علاجه بان يامر الخليفة بالتثبت منه عـن طـريـق سؤال اكثر من صحابي كما فعل ذلك ابو بكر عندجمعه القرآن , ولايحتاج علاج هذه القضية البسيطة الى تعميم منع التحديث والتدوين كما فعل ذلك الخليفة عمر, ولذلك نرى ان ابا بكر لـم يـعـلـل منعه للتدوين بالاختلاط لانه حل هذا الاحتمال حلا منطقيا سليما, لم يحوجه الى اتخاذ اسلوب الخليفة عمر.

نـعـم , يـصـح هذا القول ـ على فرض التنزل ـ لو اعتبرنا ان القران والحديث قد كانابلا تمايز في صحيفة واحدة , مما هو مظنة للخلط وفقدان للتمييز. لكن الواقع لم يكن كذلك , ولم يصنع هذا الصنيع المفترض احد من المسلمين .

وهذه كتب التفسير بالماثور ماثلة بين ايدي المسلمين , ولم يقع الخلطفيها بين القرآن والاثر النبوي , رغم تطاول الازمنة وامتداد العصور.

امـا التعليل الثاني : وهو الخوف من اختلاط الحديث بالقران , لقوله :لاالبس كتاب اللّه بشي ء. فيرد عليه بامور, هي : اولا: ان الـنـص الـقراني يمتاز عن النص الروائي من حيث الاسلوب والبلاغة بمزايا ثابتة , اذ ان الاول قـد صدر على نحو الاعجاز, فتحدى مشركي العرب ـ وهم اهل البراعة في البيان ـ ان ياتوا بـمـثله . وقد تكررت هذه الدعوة في القران باساليب مختلفة والفاظ قارعة كقوله (قل فاتوابكتاب من عند اللّه هو اهدى منهما اتبعه ان كنتم صادقين ) ((56)) .

او: (قـل لـئن اجـتـمعت الانس والجن على ان ياتوا بمثل هذا القران لاياتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) ((57)) .

وفي اخر: (ام يقولون افتراه , قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون اللّه ان كنتم صادقين ) ((58)) .

وقوله : (وان كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون اللّه ان كـنـتـم صـادقـيـن # فـان لـم تفعلوا ولن تفعلوافاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة اعدت لـلـكـافـريـن ) ((59)) .وقـد ادهـشـهـم القران في بلاغته وفصاحته وقوة تاثيره حتى قالوا: سحرمستمر, بخلاف حديث رسول اللّه الذي لم يكن في مقام التحدي والاعجاز.

ثـانـيا: ان كلام النبي (ص ) جاء على سبيل تبيين الاحكام , ولم يكن يعنى بالصياغة البلاغية كما عني بـتـبيين الاحكام , مع الاخذ بنظر الاعتبار كون بعض الروايات التي صدرت عنه (ص ) كانت تنقل بالمعنى .

في حين نعلم ان المسلمين كانوا قد عرفوا القران وميزوه وحفظوه ,وكانوا يقدرون منزلته الخاصة في نفوسهم , لما جعل له من منزلة للمتعامل معه ,فلا يمسونه بدون طهارة لقوله تعالى : (لا يمسه الا المطهرون )وكانوايتهادون اياته ويرتلونها اناء الليل واطراف النهار.

واذا كـانـت عـنايتهم بالقران الى هذا الحد, واكثر من هذا الحد, فهل يتخوف بعد ذلك من اختلاطه بالحديث ؟ اوليس في هذا القول ازراء بالقران وانتقاص من مكانته ؟ وكـيـف يـخفى على الصحابة ما جاء على نحو الاعجاز من القول وبين مالايكون كذلك , حتى يلزمنا القول بان الصحابي لا يميز بينهما؟ نعم , قد يقال ان كلام النبي (ص ) ليس مثل كلام سائر الناس , بل انه كلام سيد البلغاء وافصح العرب , وانـه لـيـضاهي القران فصاحة وعمقا ولذلك لايتيسر لجميع الناس التمييز بينه وبين القران , ومن اجله يخشى من حصول الخلط بينه وبين القران والـواقـع ان هذه المقارنة فيها كثير من التجوز, وذلك لان السنة النبوية هي قول وفعل وتقرير.

ولو جرينا مع اصحاب هذا القول لما صح ان ينطبق الاعلى السنة القولية او بعض السنة القولية , لان بـيـن تـلك الاقوال الصادرة عنه (ص )ما يجري مجرى الكلام المالوف من كلام الادميين مضافا الى ان غالب المرويات عن الرسول كانت تنقل بالمعنى لا باللفظ.

ثـالـثـا: لو سلمنا بالقول السابق , فانه لا يستلزم القول بلزوم ترك الحديث صيانة للقران , لان الحديث مـفسر القران , وان كتابته وتدوينه وكثرة مدارسته مما يخدم المسلم في فهمه للقران , ولا تعارض بينه وبين القرآن .

بـلـى , ان الـتثبت في النقل عن رسول اللّه (ص ) هو ما يجب ان يصاراليه ويؤكد عليه , وهو ما اكده (ص ) بقوله : من كذب علي متعمدا فليتبوامقعده من النار. والمتامل في هذه الجملة يراها تجيز امكان مجاراة السنة النبوية والكذب عليها, بعكس القران الذي لا يمكن لاحد ان يضاهيه .

بعد هذا نتساءل : كيف ينسب الى الخليفة عمر بن الخطاب جهله بهذه الحقائق الواضحة , حتى يدعي ما لازمه عدم الفرق بين بلاغة القرآن المعجزة وبين بلاغة النص النبوي الشريف ؟ ومـن هـذا كـلـه نخلص الى ان المبررين المطروحين من قبل الخليفة عمربن الخطاب لمنع حديث رسول اللّه لا يكفيان في التعليل , فلنبحث عن مبرراخر قد نجد فيه الجواب .

السبب الثالث : ما ذهب اليه ابن قتيبة وابن حجر ذهب ابن قتيبة ((60)) وابن حجر ((61)) الى ان النهي عن التدوين جاء لجهل الصحابة بالكتابة .

بـيـد ان هذا الراي لم يثبت امام النقد والتمحيص , وواجه العديد من الاعتراضات والردود, منها رد محمد عجاج الخطيب , اذ قال : لا يـمكننا ان نسلم بهذا بعد ان راينا نيفا وثلاثين كاتبا يتولون كتابة الوحي للرسول الكريم (ص ), وغيرهم يتولون اموره الكتابية الاخرى .

ولا يمكننا ان نعتقد بقلة الكتاب وعدم اتقانهم لها, فتعميم ابن قتيبة هذالايستند الى دليل ((62)) .

وقال في كتاب السنة قبل التدوين : ونحن في بحثنا هذا لا يمكنناان نستسلم لتلك الاسباب التقليدية التي اعتاد الكاتبون ان يعللوا بها عدم التدوين , ولا نستطيع ان نوافقهم على ما قالوه من ان قلة التدوين فـي عـهده (ص ) تعود قبل كل شي ء الى ندرة الكتابة , وقلة الكتاب وسوء كتابتهم , لايمكننا ان نسلم بـهـذا بـعـد ان راينا نيفا وثلاثين كاتبا يتولون كتابة الوحي للرسول الكريم (ص ) وغيرهم يتولون اموره الكتابية الاخرى .

ولا يـمـكـنـنا ان نعتد بقلة الكتاب , وعدم اتقانهم لها, وفيهم المحسنون المتقنون امثال : زيد بن ثابت وعـبـداللّه بن عمرو بن العاص , ولو قبلنا ـجدلاماادعوه من ندرة وسائل الكتابة , وصعوبة تامينها, لـكـفـى في الرد عليهم ان المسلمين دونوا القران الكريم , ولم يجدوا في ذلك صعوبة , فلو ارادوا ان يدونوا الحديث ما شق عليهم تحقيق تلك الوسائل , كما لم يشق هذا على من كتب الحديث باذن رسول اللّه (ص ), فلابد من اسباب اخرى ... ((63)) وقـال الدكتور مصطفى الاعظمي :... وان انكرنا معرفتهم بالكتابة فكيف نحكم بكتابة القران نفسه ؟ اما كان الصحابة يكتبون القران اول باول ؟ ثـم مـا معنى (ولا تكتبوا عني شيئا سوى القرآن ؟) اذا كان الناس لايقدرون على الكتابة فلا داعي للمنع البتة .

وهذا الحديث نفسه يشير الى انهم كانوا يكتبون القرآن وغير القرآن ايضا.

ثـم وجـود عـدد كبير من كتاب النبي (ص ) وادارة دولة عظيمة في عهدالخلفاء الراشدين تتطلب وجود الكتاب العارفين بالحساب وما شاكل ذلك .

اذن لا محيص من القول بانه كان هناك عدد وافر من الذين كانوا يجيدون القراءة والكتابة حتى عصر الـصحابة انفسهم . وسياسة النبي التعليمية التي اتت اكلها في عهد النبي نفسه لابد ان تكون قد انتجت اضعاف ذلك بعدوفاته (ص ) .

اذا مما لا شك فيه انه كان هناك عدد كاف من الصحابة في عصر النبي يعرفون القراءة والكتابة ولو ان الاغلبية لم تكن تعرف الكتابة .

وبالرغم من هذا فان الذين كانوا يعرفون كان فيهم الكفاية ((64)) .

ثـم ان الاستاذ الخطيب اراد تشخيص السبب المقنع لمنع التدوين فعادلذكر بعض الاسباب التقليدية ـالـذي تـهـجم على الاخرين فيها ـ فقال : لم يكن السبب في عدم تدوين السنة رسميا في عهده (ص ) جـهل المسلمين آنذاك بالكتابة والقراءة , فكان فيهم القارئون الكاتبون الذين دونوا التنزيل الحكيم , بل كـان ذلـك لاسـباب اخرى , اهمها: الخوف من التباس القرآن بالسنة ,وكيلا يشغل المسلمون بكتابة ووقع في نفس هذا الخطا الدكتور عبدالغني , حين قال ردا على كلام ابن قتيبة : ان العمدة في ثبوت الـنهي حديث ابي سعيد الخدري . والمتبادر منه :انه اجاز كتابة القران لمن نهاه عن كتابة السنة . ولو كانت علة النهي خوف الخطا في الكتابة , فكيف يجيز لهم كتابة القران ((66)) ؟ وقـال الـسـيـد هاشم معروف : ومن مجموع ذلك تبين ان الكتابة لم تكن بتلك الندرة بين المكيين كما يـدعـي البلاذري في فتوح البلدان , حيث قال : لقدظهر الاسلام وبين القرشيين سبعة عشر رجلا يـحـسـنـون الـكـتـابة لا غير,وفي الاوس والخزرج سكان المدينة احد عشر رجلا تعلموها من جيرانهم , واذاصح ان الذين كانوا يحسنون الكتابة لا يتجاوزن هذا العدد الضئيل فلابد وان تكون في غيرهم معدومة او اقل من ذلك ... ((67)) وقد مر عليك كلام احمد امين في فجر الاسلام في ذلك ((68)) .

قـال الـدكـتور صبحي الصالح في علوم الحديث ومصطلحه : (فاذا رايناان تعويل الصحابة في حفظ الحديث انما كان على الاستظهار في الصدور لاعلى الكتابة في السطور, صار لزاما علينا ان نلتمس لـتـعـلـيـل ذلـك غـيـرالاسـبـاب الـتـقـلـيدية التي يشير اليها الباحثون عادة كلما عرضوا لهذا الموضوع ,فمانستطيع ان نتابعهم فيما يزعمون من ان قلة التدوين على عهدرسول اللّه تعودبالدرجة الاولى الى ندرة وسائل الكتابة , لانها لم تك قليلة الى هذا الحد الذي يبالغ فيه , وهي على كل حال قلة نسبية قد تكون احدالعوامل في اهمال تدوين الحديث , ولكنها بلا ريب ليست العامل الوحيد, فما منعت نـدرة هـذه الادوات صـحـابـة الـرسول من تجشم المشاق وركوب الصعاب في كتابة القرآن كله في اللخاف والعسب والاكتاف والاقتاب وقطع الاديم .

ولو ان بواعثهم النفسية على تدوين الحديث كانت تضارع بواعثهم على كتابة القرآن حماسة وقوة لا صـطـنعوا الوسائل لذلك ولم يتركوا سبيلاالاسلكوها , بيد انهم من تلقاء انفسهم وبتوجيه من نبيهم نهجوا في جمع الحديث منهجا يختلف كثيرا عن طريقهم في جمع القران ) ((69)) .

اما السيد محمد رضا الجلالي فقد علق على راي ابن حجر بقوله :والعجب من محدث , رجالي , مؤرخ مـثـل الـحـافـظ ابن حجر العسقلاني ان تخفى عليه حقيقة واضحة كهذه , فيقول : لانهم , كانوا لا يعرفون الكتابة ولـعل الحافظ السيوطي قد تنبه الى هذه الزلة من ابن حجر, فعدل عبارته ,حيث يقول : ان اكثرهم كانوا لا يحسنون الكتابة ((70)) .

وبهذا عرفت ان اطلاق جهل الصحابة بالكتابة غير سليم , لان من لايجيدالكتابة لايمكن ان يقال له : لا تكتب , فالنهي عن التدوين بذاته دال على وجود المؤهل منهم لكتابة , او دال على وقوعها, والا فالنهي يكون لغوا,خاصة اذا كان شديدا, فتامل .

السبب الرابع : ما نقله الاستاد ابو زهو والشيخ عبد الغني قـال الاسـتاذ ابو زهو: وشي ء اخر جعل النبي (ص ) ينهاهم عن كتابة الحديث , هي : المحافظة على تلك الملكة التي امتازوا بها في الحفظ, فلوانهم كتبوا لا تكلوا على المكتوب , واهملوا الحفظ فتضيع ملكاتهم , بمرورالزمن ((71)) .

وقـال الـشـيخ عبدالغني : القول الثاني : انه نهى عن كتابتها خوف اتكالهم على الكتابة واهمالهم للحفظ الـذي هـو طبيعتهم وسجيتهم , وبذلك تضعف فيه ملكتهم .. ولذلك كان هذا النهي خاصا بمن كان قوي الحفظ امنامن النسيان ((72)) .

وقـال قبلها: الحفظ والكتابة يتناوبان في المحافظة على الشرع , وفي الغالب يضعف احدهما اذا قوي الاخـر. ومـن هـنـا قـد نفهم سببا من الاسباب التي حملت الصحابة على حث تلاميذهم على الحفظ, ونهيهم اياهم عن الكتابة وذلك : لانهم كانوا يرون ان الاعتماد على الكتابة يضعف فيهم ملكة الحفظ, وهي ملكة طبعوا عليها, والنفس تميل الى ما طبعت عليه , وتكره مايخالفه ويضعفه ((73)) .

قـال الـدكتور محمد عجاج الخطيب : (وابوا ان ينكب اهل الحديث على دفاترهم ويجعلوها خزائن عـلـمـهـم , ولـم يعجبهم ان يخالف سبيل الصحابة في الحفظوالاعتماد على الذاكرة . وحق لهم ان يـكـرهـوا الاتكال على الكتب , لان في الاتكال على المكتوب وحده اضعافا للذاكرة , وانصرافا عن الـعـمـل به ) ((74)) .وعلق صاحب تدوين السنة الشريفة على كلام الشيخ عبدالغني بقوله :وهذا الـكـلام ليس فيه وراء الخطابة امر علمي ولا استدلال بشي ء, بل هوبعيدعن الموضوعية , حيث ان الـبـحـث انـمـا هـو عن حرمة التدوين والطبائع وما تحب اوتكره وهـل هذا يوجب ترك امر شرعي مهم ـ كالحديث ـ عرضة للنسيان وغيره من افات الذاكرة وعدم ((75)) ؟ ولنا مع هذا الراي وقفتان : الاولـى : يـرد هـذا الـتوجيه لو فرضنا كون النهي قد صدر عن النبي (ص ),لكن هذا النهي ـ كما سـترى فيما بعد ـ لم يكن شرعيا, ولم يصح ما روي عنه (ص ) في هذا المورد, بل ان احاديث النهي قـد صـدرت تـحـت ظروف سياسية وقناعات سابقة من اشخاص معينين ارادوا للتحديث والتدوين ان لاينطلقا في عالم ارحب .

الـثانية : لو سلمنا بصحة هذا الراي , فان ذلك يستلزم ان تكون الكتابة محرمة , مع ان كراهة الاتكال على الكتابة لا تعني حرمتها بل تعني عدم الرغبة فيها. فلو كانت محرمة لما كتبها بعض الصحابة , ومن ثم كانوااذاحفظوها محوها ـ كما نقل ذلك عن القاضي عياض ((76)) .

ثـم الا ترى القول بمنع الحديث بدافع المحافظة عليه اشبه شي ءبالتناقض ؟ الـمعلم تلاميذه على العلم ويحرضهم على صون محفوظاتهم من النسيان ثم يوصيهم الا يدونوها ولا يتدارسوها؟ اليس صون العلم والمحافظة عليه بالكتابة والتدوين اولى واجدى من حفظه واستظهاره ؟ ولـو تـذكـرنا ان كل ما كتب قر وكل ما حفظ فر, فلم التاكيد على حفظالحديث وتجويزه من قبل الـحـفـاظ, والـقـول ان منع الكتابة جاء للمحافظة على الذاكرة ؟ الـصـحـابـي الحافظ؟ ((77)). ؟ قـد يقال : ان الحافظة ملكة يمكن ان تدرب و تشحذ لتكون قوية حادة ,كما هو شان حاسة السمع عند الاعـمى التي تكون اقوى بكثير مماعندالبصير , لانه غالبا ما يستعين بها بدل البصر المفقود, وكذا التاجر الامي ,فان حافظته ـ لكثرة اعتماده عليها وكثرة مزاولة استخدامها ـ اقوى من حافظة التاجر المتعلم ـ لان الاول يعتمد على الحافظة بخلاف الثاني .

لـكن لو صح ان شان الصحابة مع الحفظ كان على هذه الشاكلة , وان العرب كانوا ذوي حافظة قوية , وخـصـوصـا الصحابة الذين قيضهم اللّه لحفظالشرع وصيانته , وحمله وتبليغه لمن بعدهم .. فكيف يـمـكـن تاويل مااخرجه الخطيب في رواية مالك , والبيهقي في شعب الايمان , والقرطبي في تفسيره بـاسناد صحيح عن عبداللّه بن عمر, قال : تعلم عمر سورة البقرة في اثنتي عشرة سنة , فلما ختمها ((78)) وماذا يمكننا ان نقول في ذلك ؟ ؟ هل يجب ان نخطا الشيخ عبد الغني والاستاذ ومن ذهب الى هذا الراي ابوزهو, ام نخطا ابن الجوزي والذهبي والقرطبي لروايتهم هذا الخبر عن عمر .

لا بد اذن ان يكون في الامر شي ء آخر غير الحافظة والاعتزاز بها. وهوماسيتضح للقارى لاحقا ان شاء اللّه .

قـال الاسـتاذ يوسف العش في مقدمة كتاب تقييد العلم , فذاكرة اكثرالناس اضعف من ان تتناول مادة الـعـلم باجمعه , فتحفظها من الضياع , وتقيهامن الشرود , ومهما قويت عند اناس فلا بد ان تهون عند اخرين , فتخونهم وتضعف معارفهم ((79)) .

وقد عدد اصحاب الجرح والتعديل في كتبهم اسماء من كان يخلط من الصحابة والرواة في كتبهم .

ان هـذه الامور تؤكد ان المسالة لم تكن كما يصورها البعض , بل هناك شي ء اخر ينبغي الاشارة اليه , اذ ان الـسـنة النبوية لم تكن حكرا على العرب ,ليقال في التعليل : وانهم اصحاب حافظة قوية , حتى يـرد تـعليل الشيخ عبدالغني ,والاستاذ ابي زهو, بل ان هناك من الفرس من كان يريد تدوين السنة , فماالجواب في مثل هذه الحالة ؟ ولو كان الحفظ واجبا في شي ء, الا تراه في القران اوجب ؟ ولـو كـانـت سعة الحفظ وقوة الذاكرة مانعة من كتابه شي ء, فلماذا لم تمنع لكتابة القران ؟ مع وجود عدد كبير من حفاظ الصحابة ؟ وحـديـث بن ابي مليكة , وان كان من المراسيل , الا انه قد جاء في كلام الاعلام الذين تعرضوا لمنع تدوين السنة الشريفة .

وفيه دلالة على ان اعتماد التحديث عن رسول اللّه (ص ) اصبح وسيلة مضادة للخلفاء, وان المسلمين سـرعان ما اثر فيهم فقد نبيهم ,فاحسوابضرورة حفظ سنته , ومعرفة احكام الدين التي بلغها, فلذلك كانوايحدثون عن رسول اللّه (ص ) نشرا لاحكامه , وحفظا لها من الضياع والدثور.

وان الـصحابة باعتبارهم الجيل الاول , كانوا ملزمين ببيان الاحكام للناس ,ورواية كل ما سمعوه عن النبي (ص ) للجيل الجديد المسمى بجيل التابعين , اذانهم بامس الحاجة لمعرفة احكام الدين من خلال اقـوال الـنبي وافعاله , ولايتسنى ذلك الا بالاخذ من الصحابة العدول , الذين هم بمنزلة المحفوظات الحية عن رسول اللّه بعد كتاب اللّه المبين .

وقـد كـان ابو بكر على علم بهذه الحاجة الدينية الماسة من قبل التابعين ,وبوجوب الاجابة من قبل الصحابة , وكان على علم ايضا بمدى ضرورتها,وقدعبر عنها في قوله : فمن سالكم فقولوا....

ومـن خلال قول ابي بكر: انكم تحدثون عن رسول اللّه احاديث تختلفون فيها نفهم ان الخلاف في المسائل الفرعية انذاك كان صادرا من جهة اختلاف وجوه النقل من قبل الصحابة . وهذا معناه اما كذب عدد منهم في النقل , كما اخبر النبي (ص ) بقوله : ستكثر عليكم القالة من بعدي فتتعارض نقولاتهم مع نقول الصادقين من الصحابة . واما وقوع النسيان , او السهو, او الغلطلدى بعض منهم , بحيث يحدث الاختلاف مع نقولات الحافظين الذاكرين الصحيحي النقل .

واما ان تكون النقولات متعارضة ظاهرا الى حد ان يخفى على غيرالمتمرس بالشريعة وجه الجمع والـعـثور على القرائن الحالية , او المقالية التي يمكن بواسطتها رفع الاختلاف . وللامام علي بن ابي طالب بيان في وجه اختلاف الروايات عن رسول اللّه , ستقف عليه لاحقا ان شاء اللّه تعالى .

اذن , ان من يريد التثبت في الحديث يلزمه ان يحتاط في الاخذ, ومن شك في صحة حديث , فانه ينبغي عـلـيـه التحقيق فيه حتى يتبين له المكذوب من الصحيح ((80)) , ولا يجوز ان يامر بمحو الحديث وحرقه لمجرد احتمال يردعليه ,والا فهو الاضاعة والتفريط لا الاحتياط والضبط.

السبب الخامس : ما ذهب اليه الخطيب البغدادي وابن عبد البر قال الخطيب : ان قال قائل : ما وجه انكار عمر على الصحابة روايتهم عن رسول اللّه (ص ) وتشديده عليهم في ذلك ؟ قـيـل لـه : فـعل ذلك عمر احتياطا للدين , وحسن نظر للمسلمين , لانه خاف ان يتكلوا عن الاعمال , ويـتـكـلوا على ظاهر الاخبار. وليس حكم جميع الاحاديث على ظاهرها ولا كل من سمعها عرف فـقـهـهـا, فقد يرد الحديث مجملا ويستنبط معناه وتفسيره من غيره , فخشي عمر ان يحمل حديث عـلـى غـيـر وجهه , او يؤخذ بظاهر لفظه , والحكم خلاف ماخذه , وفي تشديد عمرـايضا ـ على الـصـحـابة في روايتهم حفظ حديث رسول اللّه (ص ) وترهيب من لم يكن من الصحابة ان يدخل في السنن ما ليس منها ((81)) .

قـال الـدكـتـور مـحـمـد عجاج الخطيب , بعد نقله كلام الخطيب البغدادي :هذاما راه ابن عبدالبر والخطيب البغدادي وغيرهما من ائمة الحديث واليه اذهب وبه اقول ((82)) .

هذا كلام الخطيب في المسالة . وهو كلام تثار حوله عدة اسئلة : مـنـها: اترى ان عمر كان احرص من رسول اللّه على دين اللّه ؟ ومامعنى خوفه واحتياطه ورسول اللّه يقول للسائل : حدث عني ولا حرج ؟ويقول في آخر اكتبوا ولا حرج ؟ وكيف لا يحتاط ابو ذر الغفاري وهو الصحابي الذي قال عنه رسول اللّه (ص ) : ما اظلت الخضراء ولا اقلت الغبراء على ذي لهجة اصدق من ابي ذر وابن مسعود وغيرهم .

ثـم ان ما فعله عمر بن الخطاب من خطر التحديث والتدوين , وجمعه للصحابة المحدثين في حوزته الى آخر حياته ـ من امثال ابي ذر وابن مسعودوابي الدرداء وغيرهم ـ ليشير بوضوح الى افتعال ما نـسـب لهؤلاء من روايتهم احاديث منع التدوين والتحديث عن النبي (ص ), فقد ثبت من جهة ان عمر منع هؤلاء وفرض عليهم الاقامة الاجبارية في المدينة , لتحديثهم عن رسول اللّه فلايعقل في الجهة الـمـقابلة ان يكونوا هؤلاء هم رواة احاديث منع التدوين منع النبي (ص ) ولماحدثواعنه (ص )بشي ء.

بـلى , لو صح انهم من مانعي الرواية والتحديث لما احتاج عمر الى جمعهم ونهيهم عن التحديث , لانه تحصيل حاصل .

ثـم الـم يـكـن في هذا القول ازدراء للصحابة , وتكذيب لما قاله ابن حجرعنهم : فنفى عنهم الكذب والخطا والسهو والريب والفخر.

واذا كان نقل الصحابة قد جاء تدريجيا واجتهادا منهم , فهل يجوزلعمرنقض ما فعلوه ؟ وان لم يكن كذلك , فكيف يامرهم ان ياتوه بمدوناتهم ؟ الم يكن ذلك دليلا على الجواز؟ وهـل يـعـقل ان يمنع الرسول (ص ) من تناقل حديثه الذي فيه بلاغ للناس ؟ وهو القائل رحم اللّه امرءا سمع مقالتي فوعاها فبلغها عني والعجيب انهم يدعون ان في المنع احتياطا للدين , ويفوت عليهم ان منع المنع هو الاحتياط للدين , لان مـعـنـى الـمنع هو ضياع كثير من الاحكام وعدم وصولهاللمسلمين واخفاء حكم اللّه , واما التحديث والتدوين فهو وان كان عرضة للخطاوالتصحيف وو... لكنه اعود على المسلمين من بقاهم في الجهل وعدم معرفة الاحكام .

ولـو تـنزلنا وقلنا بان عمر منع من التدوين احتياطا للدين , فانناسنواجه مشكلة ان عمر بن الخطاب كان حادا سريعا في اتخاذ المواقف منذالجاهلية ((83)) وصدر الاسلام .

فـتـراه يـتسرع في كثير من الامور ثم يندم على ذلك , كما حصل ذلك في صلح الحديبية مثلا وفي اسـرى بـدر, ومـثـل ذلك ما تعجل به عندما جي ءبالحكم بن كيسان اسيرا للنبي (ص ) فجعل النبي يـدعـوه الـى الاسـلام , فاطال ,فقال عمر: علام تكلم هذا يا رسول اللّه ؟ الابد,دعني اضرب عنقه ويقدم على امته الهاوية .

فكان النبي (ص ) لا يقبل على عمر, حتى اسلم الحكم .

قـال عمر: فما هو الا ان رايته اسلم , حتى اخذني ما تقدم وما تاخر, وقلت :كيف ارد على النبي امرا هو اعلم به مني , ثم اقول : انما اردت بذلك النصحية للّه ولرسوله ؟ قـال عـمـر: فاسلم , فحسن اسلامه , وجاهد في اللّه حتى قتل شهيداببئرمعونة ورسول اللّه راض عنه . ودخل الجنان ((84)) .

وكانت له مثل هذه المواقف في خلافة ابي بكر, فقد جاء نفر من مؤلفة المسلمين الى ابي بكر يطلبون سهمهم , فكتب لهم به , فذهبوا الى عمرليعطيهم , وارده كتاب ابي بكر, فابى ومزق الكتاب , فرجعوا الى ابي بكر,فقالوا : انت الخليفة ام عمر؟ ((85)) .

وقـد اكثر من سرعة البت في الامور في فترة خلافته , فغرب نصر بن حجاج لان امراة هتفت به , وشرع الطلاق ثلاثا واراد اخذ ذهب البينه الحرام ثم اعرض عن ذلك لمخالفة الصحابة اياه , ووو ومع هذا الذي نراه من مسيرة عمر, لا نستطيع ان نؤمن بانه فعل ذلك احتياطا لان التسرع والاجتهاد يتنافى مع الجذور والاحتياط.

وماذا نقول عن فعل الصحابة ؟ وهل يعقل ان الصحابة الاجلاء كانوا لا يرون الاحتياط في الدين ؟ ام انهم كانوا يرون الاحتياط هو الاخذ برؤية تخالف ما ذهب اليه الخليفة ؟ وكـيـف يـصح ان يقال ان فعل عمر كان للاحتياط, مع انا نرى الصحابة اشاروا عليه بتدوين السنة , فـانفرد برايه واحرق المدونات ومنع من التدوين ,ترى كيف صار خلاف صحابة رسول اللّه (ص ) احتياطا؟ ان الاحتياط في ان يوافق الخليفة راي اكثر الصحابة لقوله تعالى (وامرهم شورى بينهم ), ولايمانه هو بمبدا الشورى , فمخالفة ما اشاربه الصحابة يعد نقضا للاحتياط وهدما لمبدا الشورى الذي اتخذه عمر بن الخطاب .

بـعـد كل هذا يتجلى ضعف هذا الراي , وعدم صموده امام النقدوالتمحيص فلذلك نرى ان ننتقل الى سبب آخر عسى ان نقف على الحل فيه .

السبب السادس : ما ذهب اليه بعض المستشرقين قال المستشرق الالماني شبرنجر: ان الفاروق عمر لم يهدف الى تعليم العرب البدو فحسب , بل تمنى ان يـحـافظ على شجاعتهم وايمانهم الديني القوي ليجعلهم حكاما للعالم . والكتابة واتساع المعرفة لا تتناسب مع الهدف الذي سعى من اجله ((86)) .

ومن هذا النص نفهم ان شبرنجر يريد استغلال منع عمر التدوين ليوحي بان انتشار الاسلام كان عـلـى اساس القوة المفرغة من المعرفة , وان الكتابة واتساع المعرفة في نظره لا تناسب الشجاعة البدوية , وروحية عمرالحربية والـحـق ان هـذا الكلام فيه ما فيه من اضاليل المستشرقين , ومن ادعاءاتهم التي يطلقونها في الهواء خـلـوا مـن اي بـرهـان او دلـيل . وهذاالمستشرق الاخر ج , شاخت يدعي ان ليس بين الاحاديث المروية آعندالمسلمين ـ حديث فقهي صحيح , بل انها وضعت بعدئذ في اطار المصالح المذهبية ويمضي جولد تيسهر ابعد من هذا, فيدعي في صدور روايات التدوين ان جمعيها موضوعة , وان الكتب المؤلفة الجامعة للحديث المنسوبة الى العصرالاول مفتعلة , وغيرها الكثير من الاراء الفارغة , مـن ارادالـتـفـصـيـل فـي اراءالـمستشرقين الموهومة واجوبتها, فليراجع كتاب الدكتورمحمد مصطفى الاعظمي دراسات في الحديث النبوي فانه خير مرجع للباحثين في هذاالموضوع . ونحن نرى ان الاعراض عن اجابة مثل هذه الافتراءات الواهية التي لا يعضدها دليل اولى بالمقام .

السبب السابع : ما ذهب اليه غالب كتاب الشيعة ويتلخص ذلك : في ان النهي جاء للحد من نشر فضائل اهل البيت ,وتخوفا من اشتهار احاديث الرسول في فضل علي وابنائه ((87)) , وما دل على امامتهم ((88)) . وقد اشتد هذا الامر على عهد معاوية الذي كان يامر الناس بلعن الامام علي في خطب الجمعة على منابر المسلمين ((89)) .

واستنتج هؤلاء رايهم من واقع الامة بعد رسول اللّه , وهيكلية نظام الخلافة السياسي والاجتماعي , وان الـعـمـل الثقافي ليس باجنبي عن العمل السياسي , وحيث ان الخليفة لا يرتضي اعطاء اهل اليبت مـكـانـا في النظام الجديدبل سعى ليسلب منهم كل مايتكئون عليه , فلا يبعد اذا ان تكون قرارت عمر الاخيرة في منع التدوين قد شرعت لهذا الغرض .

وقد وثق بعض هؤلاء الكتاب كلامه بما نقله الخطيب البغدادي عن عبدالرحمن بن الاسود عن ابيه , قال : جاء علقمة بكتاب من مكة او اليمن ,صحيفة فيها احاديث في اهل البيت بيت النبي , فاستاذنا على عبداللّه [ابن مسعود], فدخلنا عليه , قال : فدفعنا اليه الصحيفة , قال : فدعا الجارية , ثم دعابطست فيها ماء, فقلنا له : يا ابا عبدالرحمن انظر فيها, فان فيها احاديث حسانا.

قـال : فـجـعـل يـميثها فيها, ويقول : (نحن نقص عليك احسن القصص بمااوحينا اليك هذا القران ), القلوب اوعية فاشغلوها بالقران لا تشغلوهاماسواه ((90)) .

ثـم جاء هذا القائل ليخدش في ابن مسعود, ويقول : القول انه انحرف عن علي ((91)) او: انه لم يعر [الموضوع ] اهتماما واباد الصحيفة محاولا ان يوهم ان القران يغني عما فيها ((92)) . وبذلك اعتبر محو ادلة الامامة هو الهدف الاساس في المنع , ولم يكن هناك سبب صحيح اخر ((93)) .

ويمكن ان يؤخذ على هذا الراي بما يلي : الاول : الـمـشـاهـد فـي الـمـصادر وجود نصوص عن ابن مسعود, تؤكدانه كان من دعاة التحديث والتدوين , ومن اجل موقفه هذا دعي الى المدينة ايام الخليفة عمر بن الخطاب وسجن حتى اخر عهد الخليفة , واليك بعض النصوص المؤكده على انه كان من دعاة التحديث والتدوين , منها: روى عمرو بن ميمون , قال : ما اخطاني ابن مسعود عشية خميس الااتيته فيه ... ((94)) .

وعن عبداللّه بن الزبير قال قلت لوالدي : مالي لا اسمعك تحدث عن رسول اللّه كما اسمع ابن مسعود وفلانا وفلانا... ((95)) .

وعـن ابـي قـلابـة قـال : قال ابن مسعود: عليكم بالعلم قبل ان يقبض وقبضه ذهاب اهله فان احدكم لايدري متى يفتقر اليه , وستجدون اقوامايزعمون انهم يدعونكم الى كتاب ((96)) .

وجـاء عـن مـعـن , قـال : اخـرج عـبـدالرحمن بن عبداللّه بن مسعودكتابا,وحلف له انه خط ابيه بيده ((97)) .

وروى جـويبر, عن الضحاك , عن عبداللّه بن مسعود, قال : ما كنانكتب في عهد رسول اللّه شيئا من الاحاديث الا التشهد والاستخارة ((98)) .

وفـي جـزء القراءة من صحيح البخاري ((99)) اشارة الى وجود نسخة عنده اوكتب عنه . وحكي عن اصحابه انهم كانوا يرحلون لطلب العلم وتدوينه .

وعـن الـشـعـبـي : ما علمت ان احدا من الناس كان اطلب للعلم في افق من الافاق من مسروق , وكان اصحاب عبداللّه الذين يقرئون الناس ويعلمونهم السنة : علقمة , ومسروق و... ((100)) .

وجـاء عـن ابـن عياش , قال : سمعت المغيرة يقول : لم يكن يصدق على علي في الحديث عنه , الا من اصحاب عبداللّه بن مسعود ((101)) , كامثال علقمة من الذين عرفوا بحب علي والافراط فيه .

وقـد جـاء فـي تاريخ الفسوي : ان حفيد ابن مسعود احضرلـ (معن ) كتابابخط ابيه عبدالرحمن بن عبداللّه بن مسعود كان يشتمل على الاحاديث وفقه ابن مسعود ((102)) .

وروى الطبراني عن عامر بن عبداللّه بن مسعود: انه كتب بعض الاحاديث النبوية وفقه ابن مسعود وارسل ذلك الى يحيى بن ابي كثير ((103)) .

فـلـو اضفت هذه النصوص الى ما قيل عن ابن مسعود وكونه من الصحابة الستة الاوائل المسارعين لـلاسـلام , وان رسـول اللّه قـال لـه (انك لغلام معلم ) ((104)) و(من احب ان يسمع القران غضا فليسمعه من ابن ام عبد) ((105)) , وان عمر بن الخطاب قد ارسله الى الكوفة لتعليمهم امور الدين لـعـلـمـت انـهـا تدل على امتلاك ابن مسعود الرؤية الواضحة والثقافة الاسلامية , فتراه يصر على اقـراءالناس القراءة التي سمعها من رسول اللّه , حتى كسر ضلعه من قبل الخليفة عثمان بن عفان . فمن كـان هـذا حـالـه لزم التوقف عند ما نقل عنه واجتناب البت فيما قيل من ذهابه الى منع عن التحديث والتدوين , ودراسة ذلك بروية وحذر.

الثاني : لم نجد ذيل خبر علقمه - والذي ذكره الخطيب - في غريب الحديث لابن سلام , اذ ليس فيه ان الاحاديث كانت في اهل البيت , بيت النبي ((106)) , مضافا الى ان هنا المنقول يخالف ما نقل عن ابن مـسـعـود وكـونـه من الاثني عشر الذين انكروا على ابي بكر غصبه الخلافة , وقوله : يا معشر قـريش ,قد علمتم وعلم خياركم ان اهل بيت نبيكم اقرب الى رسول اللّه منكم . وان كنتم انما تدعون هـذا الامـر بقرابة رسول اللّه , وتقولون ان السابقة لنا, فاهل بيت نبيكم اقرب الى رسول اللّه منكم , واقدم سابقة ... ولا ترتدوا على اعقابكم ,فتنقلبوا خاسرين ((107)) .