عمّا في المحفوظ من أدلّة الكتاب والسّنّة فتطلب مطابقة ما في الخارج لهاعكس الأنظار (1) في العلوم العقليّة الّتيتطلب في صحّتها مطابقتها لما في الخارج.فهم متعوّدون في سائر أنظارهم الأمورالذّهنيّة و الأنظار الفكريّة لا يعرفونسواها.
و السّياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما فيالخارج و ما يلحقها من الأحوال و يتبعهافإنّها خفيّة. و لعلّ أن يكون فيها ما يمنعمن إلحاقها بشبه أو مثال و ينافي الكلّيّالّذي يحاول تطبيقه عليها. و لا يقاس شيءمن أحوال العمران على الآخر كما اشتبها فيأمر واحد فلعلّهما اختلفا في أمور فتكونالعلماء لأجل ما تعوّدوه من تعميم الأحكامو قياس الأمور بعضها على بعض إذا نظروا فيالسّياسة افرغوا ذلك في قالب أنظارهم ونوع استدلالاتهم فيقعون في الغلط كثيرا ولا يؤمن عليهم.
و يلحق بهم أهل الذّكاء و الكيس من أهلالعمران لأنّهم ينزعون بثقوب أذهانهم إلىمثل شأن الفقهاء من الغوص على المعاني والقياس و المحاكاة فيقعون في الغلط. والعاميّ السّليم الطّبع المتوسّط الكيسلقصور فكره عن ذلك و عدم اعتياده إيّاهيقتصر لكلّ مادّة على حكمها و في كلّ صنفمن الأحوال و الأشخاص على ما اختصّ به و لايعدّي الحكم بقياس و لا تعميم و لا يفارقفي أكثر نظره الموادّ المحسوسة و لايجاوزها في ذهنه كالسّابح لا يفارق البرّعند الموج. قال الشّاعر:
فيكون مأمونا من النّظر في سياسته مستقيمالنّظر في معاملة أبناء جنسه فيحسن معاشهو تندفع آفاته و مضارّه باستقامة نظره. وفوق كلّ ذي علم عليم.
و من هنا يتبيّن (2) أنّ صناعة المنطق غيرمأمونة الغلط لكثرة ما فيها من الانتزاع وبعدها عن المحسوس فإنّها تنظر فيالمعقولات الثّواني. و لعلّ الموادّ فيها
(1) الأصح أن يقول كلمة النظر لأنه لا وجودلكلمة انظار في (لسان العرب).(2) و في النسخةالباريسية: تعلم.