یوجین یونسکو

کلود ابستادو ؛ مترجم: قیـس خضور

نسخه متنی -صفحه : 131/ 96
نمايش فراداده

وجوه أسطورية

تسيطر على هذا الكابوس صورتان. تتخذ الصورة الأولى أسماء: مدام سميث، جاكلين، روبرتا، مادلين، جوزفين، مرغريت، ماري-مادلين، أو بكل بساطة هي الأم، الزوجة ، الأخت، الحبيبة، الخادمة، الملكة، التي تفعل كل شيء. إنها المرأة، الغواية، مصيدة الجحيم.

أمّا وقد التفتت نحو الظلام وشدّها الليل فإنها ترشد شوبير: إلى الأسفل، إلى أسفل. إلى أسفل[...] لاتنهض ياحبيبي[...] انزلْ، انزلق ياحبيبي [...] توغّلْ في الظلمات أكثر ياحبيبي [...] هيّا، انزلْ... إلى أسفل، إلى أسفل دائماً.... يصبح صوتها شجيّاً ونداؤها نداء الرغبة، فالغوص غواية وإغراء: انزلْ... انزل... إذا كنت تريدني! وعلى ترنيمة روبرتا يهيمن نداء الجنس لدي ماء في ثغري. إنني أغوص[...] عندي بيت من فخّار وطراوة دائمة... هناك زبد وذبابات ضخمة وصراصير وبقّ وضفادع. تحت أغطية ندية نمارس الحب... نمتلئ بالسعادة! ألفّك بذراعيّ مثل أفعى، بساقيّ اللدنتين. تتوغل وتذوب صور ساحرة كريهة لملذات جسدية هي المسكن وهي القبر.

تمثّل المرأة أيضاً الوفاء للماضي. جوزفين وماري- مادلين تلغيان الحاضر، توقفان الزمن. جان مدفوع رغماً عنه: أنت تأخذينني بيدي بينما أحلم بما لا أدري، تسألينني أن أحضر فأجيب نعم، وفكري شارد في مكان آخر. تحضرينني إلى هذا المكان وتجعلينني أستقرّ في هذا البيت، تجعليننا نستقرّ بينما خيالي شارد. فجأة، عندما أثوب إلى رشدي أدرك أنني هنا حيث قررّتِ أن تأتي بي، إلى نفس المكان الذي كانت كوابيسي قد حذّرتني من العودة إليه. المشاعر الفاترة، العادات، اللياقات، ما يحدث وما لايحدث ، الحب المُحاصر، تؤلف عالم المرأة الساكن.

سلام وحلاوة. استسلام، قبول بجميع الحدود وخاصة الموت: لا تحاول أن تطير عالياً جداً كما قالت جوزفين. لقد سلبت مرغريت الأمل من الملك: الحالم ينسحب من حلمه وماري- مادلين تتحدث عن الخضوع سريعاً أو بطيئاً، ما أهمية ذلك؟ ساعة أو عشر دقائق، عام أو أسبوعان، ماذا يهمّ؟ سنصل إلى النهاية على كل حال

المرأة ربّة منزل لا تكلّ. تكنس، تمسح الغبار وبيوت العنكبوب، ترتّب، تصفّ فناجين القهوة، تحب النظام. النظام: إنه مرتبط بلوائح القانون الذي لا غنى عنه، القانون المفيد. وقد بيّنت مادلين لشوبير أن القانون يخلق المواطنين الصالحين والضمائر الصافية، على هذه الأسس يخدم القانون مخططات الأسرة (روبرتا) والموت (مرغريت) والشرطة: تساعد مادلين المفتش وعندما يضع الإستجواب شوبير في مواجهة الخطر تطمئن إلى أن ما تفعله قانوني، بل إنها تحلّ محلّ الشرطي.

إلى جوار الأم- الزوجة الوجه الأسطوري الآخر في هذا العالم المخيف هو وجه الأب. في الحقيقة لا يظهر الأب سوى مرة واحدة كشخص محدّد: ذلك في مسرحية الامتثال حيث يلعب دوراً ثانوياً جداً. لكنه يلوح تحت قناع الشرطي، الراهب- الجلاّد، الطبيب- عالم الفلك، المهندس، قائد الشرطة، المحلل النفساني، المدرّس، الحارس، المحقّق، وهذه كلها وجوه للسلطة الظالمة القمعية. التطابق بين هذه الشخصيات على المستوى النموذجي ملموس في مسرحيتي الملك يموت و العطش والجوع كما أن هذا التطابق واضح جليّ في تحوّلات ضحايا الواجب.

الأب حب كبير ممزَّق: لقد جعلتني أتصالح مع الإنسانية، لقد ربطتني مع التاريخ برباط لا فكاك منه [...] لقد أحسنت صنعاً بإنكاري، من حقّك أن تحمرّ خجلاً مني، اشتمْ ذاكرتي، أنا لا أحقد عليك، ما عدتُ قادراً على الكراهية... لكن الأب يمثّل قوة قمعية في أغلب الأحيان.

الإستجواب قاسٍ في ضحايا الواجب ويصبح قضية مسرحية العطش والجوع. لقد نال الأخ تاراباس الإرتداد عن المبدأ ولم يكتف بمجرّد الاعتراف. المرأة تطالب بالاستسلام والمحقق يجبر الفرد على الإنكار والجحود.

مع ذلك فإن هذا الأب - الشرطي القمعي ما هو سوى مؤتمن على سلطة تتجاوزه. يمكن أن يكون هو نفسه متقلّباً، متلعثماً (المدّرس، الشرطي) تنبع ثقته من السلطة التي يتمتع بها. المدرّس يحتفل: إنه ينصرف إلى طقوس الدكتوراه العامة ويشعر الشرطي أنه جندي ملتزم بالطاعة ويقرأ الأخ تاراباس عذاب المهرّجين ومصير جان على وجه الأخ الأكبر. للسلطة مقامها في مديرية الأمن المكان الحصين. السلطة كيان مستقلّ إنها تُسمّى: القانون، الواجب، الاجتماعي، المعرفة، الأخلاق، الإيديولوجيات...

لابد من طرح السؤال حول طبيعة هذه القوة المطلقة التي يخضع لها الجميع ضحايا وجلاّدون. الدكتوراه العامة، الإمبراطور، قائد الشرطة، الأخ الرئيس... مَنْ هو السيد ؟ في المسرحية التي تحمل هذا العنوان السيد هو الرجل دون رأس. هل ستكون السلطة النتنة السامّة هي الفراغ؟

وهل سيكون الوعد الأوحد هو العدم؟ وهل الغياب هو الرسالة التي ينقلها المطلق؟ إن ما يطلبه الحارس في الملك يموت هو العدم الكبير.

عالم رائع.

ليست الوحشية الانطباع الوحيد عن الحياة. العالم رائع أيضاً. يقول الماشي في الهواء: لايستطيع الأدب أن يعرض سوى صورة باهتة جداً، مُصغّرة جداً للوحشية الحقيقية وللواقع الرائع أيضاً. الحياة المشرقة، الغرابة التي تنبثق تحت خطواتنا، الدهشة من الوجود تظهر بجلاء في العالم الخيالي ليونسكو.

صور خرافية.

مقابل صعوبة الحياة المتمثّلة في الثقالة والسقوط ينتصب فرح الحياة الذي تترجمه الخفّة والطيران. يتمّ التعبير عن غبطة الشخصيات بحركة ارتقاء، وبحلم ايكار المتجدّد. بعد هبوط شوبير إلى المتاهة يصعد من جديد في نور أبهى من الشمس، يتسلّق الجبل، يغدو خفيفاً، ويشعر بالقدرة على الطيران؛ وإذا ما سقط وارتمى أخيراً في سلّة الأوراق فإن اميديه يطير على جناح حلمه: في أقدامنا أجنحة.. أرجلنا أجنحة... أكتافنا أجنحة... لقد تمّ التخلّص من الثقل.. الماشي في الهواء يفسّر الأمر: الطيران جاجة لايمكن للإنسان الإستغناء عنها وهي عمل من أعمال الإيمان، والارتقاء الذاتي هوتعبير عن الفرح. على شرفة معلّقة بين السماء والأرض كان جان على موعد مع السعادة.

عالم النعمة هو مجال أتيري ، إنّه شرفات معلّقة، معابر، جسر فضي، إنه السماء على رحابتها. النور يغمر حدائق المدينة المشعّة، سُلّم جنات عدن، إنه ينير وقد تضاعف مرات كثيرة: هناك شمسان، ثلاث سماوات في مسرحية الملك يموت، أربع شموس في العطش والجوع. السماء زرقاء زرقة غير حقيقية، الهواء أكثر خفّة، أكثر نقاوة، يمكن شربه مثل مياه شفّافة: في الليل، يبدّل ضوء القمر شكل الحدائق. قال اميديه: انظريْ يامادلين جميع أشجار الأكاسيا تلمع. أزهارها تتفجّر، إنها ترتفع نحو الأعلى. لقد تفتّح القمر وسط السماء وأصبح كوكباً حيّاً. طريق المجرّة من حليب فوّار. عسل، نجوم كثيرة، شعور طويلة، طرقات في السماء، سواقي من الفضة السائلة، أنهار، مستنقعات، بحيرات، محيطات وكلّها من النور الملموس...

في هذا العالم من الشفافية والنور لم تعد البيوت المصنوعة من زجاج سجوناً، الجدران لا مرئية، الطبيعة تزهر في ربيع دائم: هناك وديان، حدائق مسحورة، نوافير، شلالات مياه، مهاد من ورود وزنابق. هناك كنائس هي حمائم، وهناك أجراس، رقرقة ينابيع، أناشيد، حلقات رقص... تؤلف هذه الصور عالم اميديه أو بيرانجيه. إنها سراب ولا شك لكن المشاهد اليومية هي أيضاً مشاهد مذهلة خلاّبة لمن يعرف النظر، يكتشف اميديه، وقد اعتزل خمسة عشر عاماً، الساحة الصغيرة، ويسأل الملك جولييت: هل لاحظتِ أنكِ كنت تستيقظين كل صباح؟ الاستيقاظ كل صباح... يولد المرء في العالم كل صباح.