فاختيار هذه الطريقة إزاء كل ذلك اللطف وتلك المحبّة من قبل أنبياء اللّه ونصائحهم التي تجري كالماء الزلال علىالقلوب، إنّما تحكي عن مدى اللجاجة والتعصب الأعمى لدى تلك الأقوام.
في الوقت ذاته يشعرنا كلام نوح عليهالسّلام بأنّه سعى مدّة طويلة لهدايةقومه، و لم يترك فرصة للوصول إلى الهدفإلّا انتهزها لإرشادهم، و لكن قومهالضالين أظهروا جزعهم من أقواله وإرشاداته. و هذه المعادلة تتجلى جيدا فيسائر الآيات التي تتحدث عن نوح عليهالسّلام و قومه في القرآن، ففي سورة نوحعليه السّلام بيان لهذه الظاهرة بشكل واف-أيضا- فلنلاحظ الآيات التي تبدا من الآية«5» و تنتهي بالآية (13) من سورة نوح حيث نقرأفيها: قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِيلَيْلًا وَ نَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْدُعائِي إِلَّا فِراراً وَ إِنِّيكُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْجَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَ أَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً ثُمَّإِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ثُمَّإِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُلَهُمْ إِسْراراً.
في الآية- محل البحث- وردت جملة «جادلتنا»من مادة «المجادلة» و أصلها مشتق من«الجدل» التي تعني فتل الحبل و إبرامه، ولذلك يطلق على البازي «أجدل» لأنّه أشدفتلا من جميع الطيور، ثمّ توسعوا في اللغةفصارت تطلق على الالتواء في الكلام و ماأشبه.
مع أنّ «الجدال» و «المراء» و «الحجاج»على وزن «اللجاج» متقاربة المعاني ومتشابهة فيما بينها، لكن بعض المحققين يرىأنّ «المراء» فيه نوع من المذمّة، لأنّهيستعمل أحيانا في الاستدلال في المسائلالباطلة، و لكن ذلك المفهوم لا يدخل فيكلمتي «الجدال و المجادلة»، و الفرق بينالجدال و الحجاج، أن الجدال يستعمل ليلفتالطرف المقابل و يبعده عن عقيدته، أمّاالحجاج فعلى العكس من ذلك بأن يدعى الشخصإلى العقيدة الفلانية بالاستدلال والبرهان.
لقد أجاب نوح عليه السّلام بجملة قصيرةعلى هذه اللجاجة و الحماقة و عدم الاعتناء