فقوله: لا ريب فيه المراد منه نفي كونهمظنّة الريب بوجه من الوجوه- لكونه منالعقليّات الدائمة الموجودة في علم اللّهو في اللوح المحفوظ- من التغيّر و النسخ، وسائر الكتب ليست كذلك، لأنّها ككتاب المحوو الإثبات قابلة للنسخ و التبديل.
و إنّما قلنا «لا ريب» فيه يراد منه نفيالريب بالكليّة، لأن «لا» نفي لماهيةالريب و جنسها، و نفي المهية يقتضي نفي كلّفرد من أفرادها، لأنه لو ثبت فرد منأفرادها، لثبت المهيّة معه، و ذلك يناقضنفيها بالكليّة.
و لهذا السرّ كان قولنا: لا إله إلّااللّه، نفيا لجميع الآلهة سوى اللّه.
و أمّا قرائة لا ريب فيه بالرفع، نقيضقولنا: ريب فيه، كما قرأها ابو الشعثاء«1»، فذلك النفي لا يوجب انتفاء جميعالأفراد، لأنّه ليس لنفي المهيّة، بل لنفيفرد من الأفراد و هو لا ينافي ثبوت فرد آخر.
و اعلم إنّه إذا جعل «ذلك الكتاب» إشارةإلى القرآن الحاضر عندنا، فيكون معنى لاريب فيه: إنّه لوضوحه و سطوع برهانه بحيثلا يرتاب العاقل بعد إمعان النظر الصحيح والفكر السليم في كونه و حيا من عند اللّهبالغا حدّ الإعجاز لا انّ أحدا لا يرتابفيه، فليس المراد نفي الريب على سبيلالاستغراق فيه، إذ كم من مرتاب فيه بلالمراد نفي كونه مظنّة للريب و متعلّقا له.
ألا ترى إلى قوله وَ إِنْ كُنْتُمْ فِيرَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنافَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ الآية،فإنّه ما أبعد وجود الريب عنهم، بل بيّنلهم الطريق إلى إزاحة ذلك عن أذهانهم، و هوأن يجتهدوا و يجرّبوا نفوس أمثالهم فيمعارضة نجم من نجومه، و هم أمراء الكلام وزعماء المحاورة، و يبذلوا غاية جهدهم فيمقابلة سورة من سوره، و هم فرسان اللسان والمتهالكون على الافتنان في القصائد والرجز، حتّى إذا عجزوا عنها تحقّق لهم أن
1) هو جابر بن زيد الأزدي ابو الشعثاء. قالفي خلاصة تهذيب الكمال (59): «قال احمد: مات سنة ثلاث و تسعين، و قالابن سعد: سنة ثلاث و مائة».